عفاف هميون – «صدى الوطن»
عندما استفاقت ديترويت صباح الأحد 23 تمُّوز (يوليو) 1967، لم يكن أحد يعرف أن النيران ستلتهم المدينة لمدة خمسة أيام متواصلة، مخلفةً وراءها 43 قتيلاً ومئات الجرحى ودماراً كبيراً وأثراً بالغاً على مستقبل ديترويت وتركيبتها الاجتماعية والاقتصادية.
في الستينات، كان العديد من العرب الأميركيين يقطنون الطرف الجنوبي (الساوث أند) من ديربورن، ولكن الأغلبية العظمى منهم كانت تعيش ضمن حدود مدينة ديترويت التي كانت تحتضن آنذاك آلاف السكان من أصول عربية، معظمهم من المسيحيين المهاجرين من لبنان وسوريا وفلسطين والعراق إضافة إلى اليمن.
وكغيرهم من سكان المدينة ومالكي المتاجر والمنازل فيها، وجد العرب الأميركيون أنفسهم في قلب ساحة حرب مع اندلاع انتفاضة ١٩٦٧، التي حولت أحياء واسعة من المدينة إلى أنقاض، فيما دب الخوف والقلق في بقية الأحياء التي يقطنها البيض، ومنهم العرب الأميركيون، الذين اضطر الكثيرون منهم إلى حمل السلاح للدفاع عن ممتلكاتهم أمام المخربين الذين عاثوا بالمتاجر حرقاً ونهباً.
وإذا تمكنت قوات الجيش الأميركي والحرس الوطني، المدججة بالآليات الثقيلة، في فرض النظام واستعادة الأمن في المدينة، فإن السلام ظل غائباً عن ديترويت لعقود قادمة، شهدت خلالها نزوحاً مضطرداً للسكان البيض، ومن ضمنهم العرب، الذين انتقلوا إلى الضواحي، لاسيما لديترويت، حيث يتركز حالياً عشرات آلاف المسيحيين العرب من الأجيال المتعاقبة، وتحديداً من الموارنة والكلدان والطوائف المشرقية الأخرى.
وفي المقابل شكلت الأحداث الدامية منعطفاً تجارياً للمهاجرين العرب، الذين تدفقوا إلى المنطقة في العقود اللاحقة ووجدوا في أسواق المدينة فرصة للتوسع تجارياً بعد أن وصل معظمهم إلى بلاد العم سام بجيوب شبه خاوية.
زمن الأسئلة الكبرى
اسماعيل أحمد، وهو أحد القيادات البارزة في الجالية العربية وأحد مؤسسي «المركز العربي» (أكسس) في ديربورن، يتذكر حال مجتمع العرب الأميركيين في تلك الأيام الغابرة التي أعقبت نكسة حرب حزيران (يونيو) ١٩٦٧ أمام إسرائيل، في الوقت الذي كانت فيه مشاعر القومية العربية ومناهضة الاستعمار في أوجها، لاسيما بين المهاجرين الجدد الذين لم يتأقلموا سريعاً في مجتمعهم الجديد.
ويلفت أحمد إلى أن انتفاضة الأفارقة الأميركيين في ديترويت ذلك الصيف، طرحت المزيد من الأسئلة الوجودية في مجتمع الجالية: «فخلال تلك الفترة كان هناك الكثير من الجدل في الجالية مثل أين نقف، وما هو لوننا، وماذا يعني لنا هذا كله؟»، مشيراً إلى أنه في تلك الحقبة أيضاً تأثر العرب، كما غيرهم من الأميركيين، بقضايا مفصلية مثل حركة مناهضة الحروب (فيتنام) وحركة الحقوق المدنية للأفارقة الأميركيين، وقضية التجديد المدني (شق الطرق السريعة)، «وكان لكل ذلك تأثير جذري على طريقة عمل الجالية وتنظيم مؤسساتها التي كانت لا تزال في طورها الجنيني».
ويشير أحمد إلى أن العديد من المنظمات العربية الأميركية ولدت من رحم أحداث ١٩٦٧، مثل جمعية الخريجين العرب الأميركيين (AAUG) و«أكسس»، فضلاً عن العديد من المنظمات الوطنية. وتابع «أعتقد أن من المهم حقاً أن نساعد في فهم أن ما حصل لم يكن أعمال شغب، بل تمرد له أهداف أراد تحقيقها».
تغييرات هيكلية
هناك اعتقاد خاطىء عن أحداث صيف ١٩٦٧، وهو أن المدينة بدأت تفقد سكانها بعد ذلك الحدث، ولكن نزوح السكان البيض كان قد بدأ فعلاً في الخمسينات مع بداية شق الطرق السريعة وبناء الضواحي، حسبما ذكرت الدكتورة سالي هاول، وهي أستاذة التاريخ في «جامعة ميشيغن–ديربورن» ومديرة مركز الجامعة للدراسات الأميركية.
ولكن ذلك لا ينفي أن وتيرة النزوح تضاعفت بعد الأحداث وطالت مجتمع العرب الأميركيين، كغيرهم من السكان البيض.
وأضافت أن المجتمع العربي الأميركي في منطقة ديترويت كان على أعتاب تغيير كبير مع إصلاح قوانين الهجرة عام 1965؛ بإزالة القيود على «كوتات» المهاجرين، مما أفسح المجال أمام المهاجرين العرب إلى التدفق إلى ديترويت بأعداد هائلة من اجل الدراسة والعمل وجمع شملهم مع ذويهم.
واستطردت أن التغييرات الهيكلية التي طرأت على الجالية العربية في العقود اللاحقة، تعززت على وقع الصراعات المتعاقبة التي حلت في الشرق الأوسط، وأضافت «لم تكن الجالية العربية الأميركية موجودة على الخارطة السياسية في ذلك الوقت كما هي عليه اليوم ولم تكن هناك مؤسسات عربية أميركية محورية مثل الآن».
وأردفت هاول «العرب لم يكونوا على الصفحة الأولى من الأخبار، وكذلك لم يكن الصراع في الشرق الأوسط ينال تغطية إعلامية، كما هو الحال اليوم» لافتة إلى أن العرب الأميركيين في ١٩٦٧ كانوا جزءاً لا يتجزأ من نسيج مجتمع البيض، و«لكن ذلك لا ينفي أن بعض العرب كانوا ناشطين سياسياً. وبعضهم كانوا متضامنين مع الأميركيين الأفارقة».
هاول أوضحت أيضاً «أن رئيس بلدية ديربورن أورفيل هوبارد كان محبذاً للفصل العنصري وهو استخدم الانتفاضات كفرصة لتعزيز التفرقة العنصرية؛ وقد أراد من ديربورن أن تكون مدينة للبيض»، وذلك لم يمنع ديربورن من أن تتحول إلى مدينة تستقطب المهاجرين العرب من المسلمين والمسيحيين.
التوسع التجاري للعرب
إدوارد (أد) ديب، أميركي من أصل سوري، كان ناشطاً بارزاً في ديترويت منذ الستينات، وقد شهد بنفسه أحداث صيف 1967، التي، وإن دفعت العرب الأميركيين إلى مغادرة المدينة، غير أنها مهدت لهم الطريق تجارياً مع إغلاق المتاجر الكبرى أبوابها ونزوحها إلى الضواحي.
ويقول ديب «علينا أن نفهم أن العديد من الناس الذين أتوا إلى هنا من سوريا ولبنان والعراق وجميع دول الشرق الأوسط لم يكونوا يملكون شيئاً»، موضحاً أن الكثيرين من رجال الأعمال العرب والكلدان وجدوا الفرصة سانحة لامتلاك المتاجر في المدينة بالحد الأدنى من رأس المال.
وأسهب ديب الذي كان يترأس «جمعية المواد الغذائية والمشروبات» في عام ١٩٦٧ أن الجاليات العربية اكتسبت حصة كبيرة من الأسواق في ديترويت؛ وقد قامت بالحفاظ عليها وزيادتها على مر العقود رغم كل الصعوبات التي واجهتها، لافتاً إلى أن الجمعية عملت منذ تأسسيها على تشجيع هذا النمط الذي ساهم في توفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة واحتياجات السكان في المدينة.
واستدرك ديب بالقول إن شركات تجارية كبرى مثل «فارمر جاك»، و«غريت سكوت»، و«أي آند بي» و«كروغر» و«تشاثام» هجرت ديترويت المدينة، و«هذه الهجرة الجماعية الكبيرة رجحت الكفَّة للمحلات التجارية الصغيرة المملوكة من قبل مهاجرين عرب وكلدان حتى اليوم.
خلال التمرد، احتفظ ديب بسجل المكالمات حول المشاكل التي كانت تواجه المتاجر وقد استدعي هو وبعض زملائه للإدلاء بشهاداتهم في واشنطن للمشاركة في حصر الأضرار التي اصابت ديترويت. ولا يزال حتى اليوم يستخدم ملاحظاته ومدوناته عن حقبة الستينيات لمساعدة الآخرين في الوقت الذي تستعد ديترويت لنفض الغبار عنها والنهوض مجدداً.
Leave a Reply