قبل نحو نصف قرن، كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على حيرة من أمره، فيما يمكن القيام به، إزاء الصراع الدائر في اليمن بين الثوريين المدعومين من مصر، والملكيين المدعومين من السعودية. حينها، أوفد أنور السادات إلى صنعاء، لتقييم الموقف، فعاد الأخير ليخبره بأن التدخل العسكري المصري لحسم الموقف لن يكون سوى «نزهة في البحر الأحمر». حسم حينها الزعيم قراره، وتدخل .. وباقي القصة بات معروفاً للجميع.
من المؤكد أن محمد بن سلمان، المعروف بتركيزه على «ألعاب الفيديو»، أكثر منه على قراءة التاريخ، لم يكن على علم بتلك الواقعة، حين قرر الغطس في المستنقع اليمني، أو أنّ الغرور الملكي، هو ما جعله يتجاوز المعطيات البديهية، سواء على المستوى الداخلي اليمني، أو على النطاق الأوسع، المتمثل في المكانة الدولية لليمن، كمركز للصراعات الإقليمية والدولية، حينما قرر إطلاق «عاصفة الحزم»، التي تحوّلت إلى «إعصار وهم».
المستنقع
وكما أن اليمن شكل المستنقع، الذي استنزف قدرات الجيش المصري، في الستينيات، وكانت من بين العوامل التي شتت المجهود الحربي، في خضم الصراع ضد إسرائيل، وهو ما أثر بشكل كبير على الأداء العسكري في حرب العام 1967، فإن هذ البلد ذاته، ما زال، منذ نحو ثلاث سنوات، يمثل مستنقعاً آخر، لمملكة آل سعود، التي عبثاً تبحث عن إنجاز عسكري، يروي غرور ولي عهدها، المرشح لتولي العرش، بين لحظة وأخرى.
ولكنّ شتان ما بين حكمة الزعيم، وطيش الأمير المراهق. فيوم أدرك عبد الناصر أن الطريق مسدود أمام التدخل العسكري في اليمن، لم يكابر، بل تعامل مع الواقع كما هو، فقرر الانسحاب نهائياً من اليمن، ضمن تفاهمات مُرضية، إلى حد ما، مع السعودية، في عهد الملك فيصل.
وأما محمد بن سلمان، فيبدو مستعداً للمقامرة حتى النهاية، وبكل الأشكال، في استنزاف قدرات نظامه، ونفطه، في حرب، يدرك القاصي والداني أنها أكبر من حجم مملكة آل سعود.
هذا ما يجعل محمد بن سلمان عازماً على استخدام كافة الأسلحة، للمضي في المقامرة، حتى وإن تطلب الأمر، اهتزاز الأمن القومي السعودي، من المنطقة الحدودية مع اليمن جنوباً، إلى بلدة العوامية شرقاً، أو حتى المخاطرة بارتكاب جرائم حرب، من خلال قطع المساعدات الإنسانية عن الشعب اليمني، والتسبب بتجويع اليمنيين، والتغاظي عن تفشي الكوليرا، بشكل وبائي، في المناطق المحاصرة.
لعله الغرور الذي يدفع الأمير الطائش إلى التفوّق على أدولف هتلر في الإجرام، فحتى الزعيم النازي، الذي بات رمزاً لكل الشرور في عالمنا المعاصر، كان يسمح، في خضم المعارك التي خاضها في أوروبا، بهدنة مؤقتة، ذات طابع إنساني. ولكن هذه المبادرات غير موجودة في قاموس محمد بن سلمان، الذي ما زال مصرّاً على فرض الحصار الكامل على ملايين اليمنيين المهددين بالجوع والمرض.
إنجازات العدوان
لم يحقق حتى الآن العدوان السعودي، أو مقامرة محمد بن سلمان، على الشعب اليمني، سوى النتائج التالية: 12 ألف قتيل، عشرهم من الأطفال، 1923 حالة وفاة بالكوليرا، 448603 حالات إصابة بالكوليرا والإسهال الحاد، مليونا طفل يعانون من سوء التغذية، و50 بالمئة من المنشآت الطبية متوقفة عن العمل، ناهيك عن الدمار الذي لحق بالحجر، وبالإرث الحضاري اليمني، وهو سلوك ليس استثنائياً عندما يتعلق الامر بغزوات آل سعود.
هذه الارقام، إن دلّت على شي، فهي تشير إلى إقرار سعودي غير مباشر بالهزيمة، فعلى الطريقة الاسرائيلية، لا تجد مملكة آل سعود من طريقة لتعويض الخسارة، أو تقبّلها، سوى إزهاق أرواح المدنيين وتدمير العمران.
وفي الحالة السعودية، لا يبدو أن إعلان الهزيمة سيكون ممكناً من دون مزيد من الإجرام، خصوصاً أن آفاق الانتصار الميداني، والسياسي، باتت مسدودة، بما يجعل حرب اليمن أكبر من الإرادة الملكية لسمو الأمير الطائش.
ولعل التعقيدات الإقليمية والدولية تؤكد أن السعودية لن تكون في المرحلة المقبلة سوى لاعباً هامشياً في الصراع اليمني، وهو أمر لا يعود إلى أنها باتت تستهلك كل الخيارات، وتستنزف ما لا يستهان به من قدرات مالية وعسكرية فحسب، بل لأن الأطراف الأخرى، بما في ذلك الاطراف الحليفة للرياض، تبدو اليوم أكثر امتلاكاً للمبادرة وهامش المناورة.
ويقر المسؤولون الأميركيون بأن إيران لن تسمح، في كل الأحوال، للسعوديين بتحقيق هيمنتهم الشاملة، على منطقة استراتيجية، تتحكم في ممرات المياه عبر البحر الأحمر. لا بل أن ثمة من يعتقد بأن الدعم الكامل الذي تقدمه الجمهورية الإسلامية للحوثيين، من شأنه ان يلقي السعودية في مأزق مزمن، بما يخفف من اندفاعة آل سعود على المستوى الإقليمي.
عبء مالي
ولا شك في أن الحرب باتت عبئاً مالياً كبيراً على السعودية، على النحو الذي يثير تساؤلات جدية حول تداعيات استمرارها، خصوصاً إذا ما صحّت التحاليل القائلة بأن العدوان بدأ يزداد شراسة، في ظل التقارب الجديد بين الولايات المتحدة والسعودية من جهة، وتصعيد إدارة ترامب لضغوطها على إيران من جهة ثانية.
ولكن حرب اليمن تتحوّل يوماً بعد يوم إلى صراع إقليمي يتجاوز الثنائي السعودي–الإيراني، وفق الرؤية السائدة اليوم، فحتى حلفاء السعودية يملكون ما يكفي من المطامع الاستراتيجية، لجعل مغامرة محمد بن سلمان فاشلة.
والحديث هنا يدور بشكل خاص على الإمارات، التي يبدو واضحاً أنها مندفعة، بكل ما تملكه من مقدّرات مالية وعسكرية، ومرتزقة يقاتلون على الأرض اليمنية، للاستحواذ على منطقة نفوذ في جنوب اليمن، تماماً كما تفعل في ليبيا، وذلك لتحقيق هدفين أساسيين: السيطرة على آبار النفط في الجنوب اليمني من جهة، والاقتراب من الخط البحري الاستراتيجي على مقربة من المدخل الجنوبي للبحر الأحمر.
هذه الاندفاعة الإماراتية، التي لا تتطابق مع الأجندة السعودية (خلافاً لما يروّج في الرياض وابو ظبي) باتت تحظى بدعم أميركي مباشر، تمثل قبل يومين، في إعلان البنتاغون عن إرسال مزيد من القوات الخاصة والمستشارين العسكريين إلى جنوب اليمن لمؤازرة العمليات العسكرية التي تقودها الإمارات هناك.
ويمكن لهذا الدعم الأميركي، أن ينقذ الولايات المتحدة من المأزق الكبير، المتمثل في الاتهامات الموجهة إلى الإداراتين الأميركيتين الحالية والسابقة، بالتغطية على جرائم السعوديين في اليمن، لا بل بتزويد الطائرات السعودية بالأسلحة التي تسببت في قتل آلاف المدنيين.
ولا يخفى أنه، برغم التحالف السعودي–الإماراتي في الحرب على اليمن، إلا أن السعودية تتحمل وحدها، حالياً، أمام الرأي العام العالمي، المسؤولية المباشرة والصريحة عن الجرائم ضد الانسانية المرتكبة في اليمن.
أما الإمارات، فلا تبدو في الواجهة، ولذلك فإن الولايات المتحدة قد تجد أن من مصلحتها نقل الدعم التدريجي من الحليف السعودي إلى الحليف الاماراتي، الذي تبدو أياديه أقل تلطّخاً بالدماء، علاوة على إمكانية تبرير الدعم العسكري المباشر في العمليات الجارية في جنوب اليمن، تحت شعار محاربة الارهاب.
صراع إقليمي
ولكن دخول اللاعب الأميركي على خط الصراع، بشكل مباشر، قد لا يقف عند حد تبديل الحلفاء في الحرب الدائرة، بل ينذر بتحويل تلك الحرب، برمّتها، من صراع إقليمي، إلى صراع دولي، لا سيما أن روسيا تبدي صراحة تطلّعها إلى تأمين الظروف المناسبة، لبناء قاعدة بحرية لها عند الشواطئ اليمنية.
ومن الناحية الاستراتيجية، فإن الخبراء العسكريين الروس ينظرون إلى قاعدة بحرية كهذه، بوصفها هدفاً استراتيجياً، يمكّن روسيا من إيجاد موطئ قدم لقواتها على البحر الاحمر ومضيق باب المندب، وهو ما يعد امتداداً لأهداف بحرية أخرى، حققت روسيا بنداً أساسياً منها في سوريا، وتواصل الجهود لاستكمالها في مصر وليبيا.
وليس الأمر هنا مستبعداً، إذا ما نظرنا إلى السياق الذي تسير عليه العلاقات الأميركية–الروسية، الآخذة في التعقيد يوماً بعد يوم. ولا شك في أن الحضور الإيراني في اليمن من جهة، وتبدّل الأدوار الإقليمية بين السعودية والامارات من جهة ثانية، والدخول الأميركي المباشر في الحرب الدائرة من جهة ثالثة، والطموحات الاستراتيجية لروسيا من جهة رابعة، تجعل حرب اليمن مقبلة على مزيد من التعقيدات، غير المحسوبة النتائج، ولكن ثمة نتيجة واحدة، يتفق عليها الكثير من المراقبين، بأن السعودية هي الخاسر الوحيد من مغامرتها العسكرية، ما يجعل حرب اليمن أكبر بكثير من طموحات ولي عهد مراهق.
Leave a Reply