أظهرت الانتخابات التمهيدية البلدية الأخيرة انفتاح شهية العرب الأميركيين على الترشح لمختلف المناصب البلدية في مدن ديربورن وديربورن هايتس وهامترامك التي يشكل فيها العرب حضوراً وازناً يتأكد ثقله وتترسخ أهميته عاماً بعد عام. وما من شك في أن مثل هذه الظاهرة هي ظاهرة صحية من حيث المبدأ والشكل، كما أنها حاجة ملحة لضمان تمثيل العرب الأميركيين في مختلف الدوائر الحكومية وحماية مصالحهم التجارية وصيانة خصوصياتهم الثقافية والحضارية التي تتعرض لهجمات شرسة من العداء والتمييز والإقصاء.
لكن الأهم في هذا السياق، هو أن لا تتحول حماسة العرب الأميركيين نحو الترشح للمناصب الإدارية والقضائية والسياسية إلى «هوشة عرب»، وألا تنبني على مطامح فارغة بنيل الألقاب كما هو الحال في البلدان التي جئنا منها، وألا تتفرع عنها معارك جانبية قائمة على العنتريات والتحزبات الفئوية والعائلية والمناطقية التافهة، التي حولت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي إلى حلبات مصارعة للديكة، ينتفون فيها ريش بعضهم البعض، ويتبادلون الشتائم والتعريضات بشكل يندى له الجبين.
المشاركة السياسية والبلدية في الولايات المتحدة تتطلب في المقام الأول فهماً معقولاً لثقافة الخدمة المجتمعية والتطوعية القائمة على الانخراط في الحياة العامة بطريقة إيجابية وفعالة. والأرجح أن بعض المرشحين العرب ليست لديهم أدنى معرفة أو خبرة بطبيعة العمل السياسي والبلدي في الولايات المتحدة. وإذا ما استعرضنا معظم خلفيات المرشحين العرب، لم نجد بينهم من تطوع للعمل في إحدى الهيئات البلدية التي يبلغ عددها في مدينة ديربورن –على سبيل المثال– 24 هيئة تضم 221 مفوضاً (بينهم 36 عربياً فقط)، بل لعل البعض منهم لم يسمع بتلك الهيئات ولا كيفية عملها ولا أهمية دورها في حماية مصالح السكان وتأمينها لجودة الخدمات التي يتوقعونها من حكام المدينة.
الناخبون العرب الأميركيون بدورهم يبدون.. خارج التغطية، حيث سجلت دوائر الاقتراع في شرق ديربورن ذات الكثافة العربية الكاسحة أدنى نسب تصويت، وبلغت نسبة التصويت الكلي (الحضوري والغيابي) في شرق ديورن 16 بالمئة فيما تم تسجيل أدنى نسبة تصويت في قلم اقتراع «مدرسة وودوورث» 11.22 بالمئة.
أما مسلمو عرب هامترامك فقد استطاعوا بشق الأنفس إيصال مرشحين عربيين في المركزين الأخيرين، الخامس والسادس على التوالي، خلال السباق على ثلاثة مقاعد مفتوحة في عضوية المجلس البلدي للمدينة التي يشكل فيها العرب والمسلمون أغلبية كبيرة والتي يبدو أنها لم تتحمس كفاية للمشاركة في الانتخابات التهميدية التي بلغ فيها متوسط نسبة التصويت 26 بالمئة.
أما المنافسة الانتخابية التي كان يجب أن تدور بين المرشحين فقد انتقلت إلى مؤيديهم بأبشع صورها في بعض الحالات، حيث سجلت الكاميرا في المركز الاقتراعي بمتوسطة سالاينا (يضم قلمي اقتراع) ملاسنة حادة وبذيئة بين شخصين (من حملتين انتخابيتين مختلفتين) كادت إلى تصل إلى العراك الجسدي بينهما. وما من شك في أن مثل هذه السلوكيات الموتورة وغير المسؤولة تنفّر الناخبين عن المشاركة في العملية الانتخابية.. الهزيلة أصلاً، والتي تصل إلى حد السخرية إذا ما علمنا أن عدد الذين أدلوا بأصواتهم في ذلك القلم الاقتراعي لم يتعد أكثر من 200 ناخب من أصل 2362.
ورغم العزوف الواضح للعرب الأميركيين عن الإدلاء بأصواتهم، إلا أن الكثيرين منهم لا يتوقفون عن النق والشكوى من ضآلة تمثيلهم وإشراكهم في قرارات إدارة المدينة، فضلاً عن قناعتهم بأنه يتم استهدافهم في كثير من القرارات البلدية، (مثل منع الأركيلة في المنتزهات العامة، ومنع استخدام الكراجات للإقامة)، وتلك الشكاوى وغيرها لا تجدي نفعاً، ولن تأخذ مصالح العرب الأميركيين بعين الاعتبار ما لم يكن التمثيل العربي في مختلف الدوائر والمؤسسات البلدية قوياً ومرجحاً..
قبل نحو أسبوعين، أصدر «مركز بيو للأبحاث» استطلاعاً استقصائياً أظهر قلق المسلمين (والعرب) الأميركيين الذي يرى فيه الكثير من الباحثين والمراقبين سلوكاً مشروعاً ومبرراً مع تنامي العداء والتمييز ضدهم في الولايات المتحدة. ومن المفارقات التي أظهرها الاستطلاع الأخير تضاعف نسبة المسلمين الأميركيين الذي يقبلون المثلية الجنسية (52 بالمئة) مقارنة بـ11 بالمئة من المسيحيين الإنجيليين البيض، بما يشير إلى أن تقبل العرب والمسلمين للقيم الأميركية لا يضمن اندماجهم في المجتمع الأميركي، ولا اعتبارهم جزءاً أساسياً منه، إذ ما يزال ينظر إليهم على أنهم «الآخرون»، بحسب ما قال رئيس «مركز دراسات الفقر الجنوبي» ريتشارد كوهين!
والخلاصة، أنه لا بديل عن الانخراط السياسي والمشاركة الانتخابية فهما الطريقان الأسياسيان والحيويان لضمان مستقبل العرب في هذه البلاد التي اخترناها وطناً بديلاً ونهائياً، بشرط أن يكون ذلك مبنياً على المعرفة والمسؤولية.. لا على المعارك الجانبية والمهاترات الفارغة على الفيسبوك..
Leave a Reply