لا يحتاج المرء إلا لإلقاء نظرة سريعة على الخريطة الميدانية الممتدة من الموصل وتلعفر شرقاً إلى جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع غرباً، لتحديد ملامح التموضعات العسكرية، وربطها بالمواقف السياسية، لتتضح من ثم طبيعة التحركات الآنية، والاحتمالات المستقبلية للصراع العابر للحدود في المشرق العربي.
وإذا ما تم رسم خط زمني لتلك التموضعات الميدانية، وما رافقها من متغيرات على المستوى السياسي، أمكن إدراك أن المشرق أمام منعطف كبير، ستتحدد ملامحه في أم المعارك، التي تتهيأ لها كافة الأطراف، والتي تدور حول نقطة محورية هي دير الزور.
متغيِّران؟
تلك المقاربة في فهم المتغيرات القائمة، والمستمرة، تشي بأن كل الأطراف المحلية والإقليمية والدولية باتت تتحرك على طريقة الخطوة خطوة، في كافة مناطق المواجهة، والتي يمكن رصدها وتتبعها، ومن ثم ربطها بعوامل جيوسياسية أخرى، لتحديد ما إذا كان الشرق الاوسط مقبلاً على تسوية… أو انفجار كبير.
ويمكن القول إن ذلك الخط الزمني قد بدأ عملياً منذ نهاية العام 2016، بمتغيّرين أساسيين، أوّلهما ميداني، حددته روسيا، التي ألقت بثقلها في معركة حلب، والتي ما يزال ينظر إليها باعتبارها «ستالينغراد» الحرب السورية؛ وثانيهما سياسي، ربما تكون روسيا قد ساهمت أيضاً فيه – بحسب الجدل القائم حالياً في واشنطن – والمتمثل في انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة.
بات واضحاً، منذ أواخر العام الماضي، أن ثمة تحرّكات روسية تجري بإيقاع متفاوت، بما يجعل الحرب على سوريا – المتجاوزة بطبيعة الحال الصراع الداخلي – بعيدة عن تحقيق أهدافها.
ولا شك ان الكل بات مقتنعاً، لا سيما بعد تحرير حلب، بأن الرئيس بشار الأسد صار يتعامل مع الموقف العام برؤية المنتصر، فالدولة السورية لم تسقط كما كان مخططا لتلك الحرب، لا بل إنها تستعيد حيويتها على مستويات عدّة سواء أمنياً (حيث بات نادراً على سبيل المثال سماع أخبار عن سقوط قذائف على دمشق)، أو سياسياً (حيث صار الكل مقرّاً بأن الأسد جزء من التسوية السياسية).
على هذا الأساس، كانت الخطوة التالية من جانب الروس والمتمثلة في التوصل إلى تفاهمات محلية برعاية إقليمية (إيران وتركيا) بتحديد مناطق لخفض التصعيد تضبطها الشرطة العسكرية الروسية، وكل ذلك من خلال تفاهمات محددة مع الولايات المتحدة لا سيما بعد لقاء هامبورغ بين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب.
التفاهمات هي الأقوى؟
ولا بد من الإشارة هنا – والأمر يستحق التوقف عنده – أن كل محطات التصعيد بين روسيا والولايات المتحدة، بما في ذلك العقوبات والعقوبات المضادة الأخيرة، لم تلق بظلالها على التفاهمات بشأن سوريا، حتى أن كافة المعلومات المستقاة من جبهات القتال ضد الجماعات الإرهابية، تؤكد ذلك، وهو ما سمح للجيش السوري وحلفائه على الأرض بالتقدم بشكل ملحوظ في منطقتي البادية السورية والحدود مع العراق، دونما معوقات، وأوجد الظروف المناسبة لإطلاق المعارك ضد التكفيريين عند الحدود اللبنانية – السورية.
ولا يعني ذلك بطبيعة الحال أن الولايات المتحدة مسلّمة تماماً للشروط الروسية، كما يظن البعض، بالمعارك الكبرى، غالباً ما تتطلب تسويات وتنازلات متبادلة، حتى وإن اتخذ بعضها طابعاً مرحلياً. وعلى سبيل المثال، وبتتبع الخط الزمني المشار إليه سابقاً، يتضح أن تحرير حلب، قوبل بموقف روسي داعم بدرجة أو بأخرى لمعركة الموصل؛ والتفاهمات المرتبطة بمناطق خفض التصعيد – وفق ما خرجت به لقاءات أستانا – شمل الجبهة الجنوبية المحاذية للجولان المحتل، وهو مطلب إسرائيلي، جعلته الولايات المتحدة أولوية مطلقة.
وعلاوة على ذلك، فإن الاندفاعة السورية في البادية السورية والمنطقة الحدودية مع العراق، قابله إطلاق يد قوات سوريا الديموقراطية (التي يشكل الأكراد ركيزتها) على جبهة الرقة، ومن ثم فتح معركة تلعفر.
تسوية وفق المصلحة!
كل ذلك، يشي بأن أطراف الصراع باتوا على قناعة بضرورة حصر مناطق الاشتباك، بما يمهد لتسوية شاملة يسعى كل طرف إلى جعلها تتواءم مع مصالحه الجيوسياسية، في حال توافرت شروطها في لحظة معينة.
ولكن ما سبق يبدو سيفاً ذا حدين، فالتغيرات التي طرأت على الخريطة الميدانية والظروف السياسية المحيطة بكل ذلك، قد تجعل الأمور أكثر تعقيداً، والمواجهة المقبلة أكثر خطورة، فطريق التسوية ما زال مزروعاً بمئات الألغام التي إن انفجر أحدها، فيسيؤدي ذلك إلى انفجار شامل لا تحمد عقباه.
وهذا ما يجعل الكل يجعل إيقاع حركته حذراً للغاية، فصواعق التفجير ما زالت قائمة في براميل البارود المنتشرة من شمال العراق إلى شرق لبنان، مروراً بكافة بؤر التوتر في سوريا، والكل يضع يده على زر التفجير في حال اقتضت اللحظة السياسية ذلك.
واشنطن ولبنان
على هذا الأساس، يمكن على سبيل المثال تفسير المواقف الصادرة من البيت الأبيض بشأن ما يجري عند الحدود اللبنانية – السورية، والتي يدور بمعظمها نحو فرض المشاركة الأميركية في المعارك التي يستعد لها الجيش اللبناني ضد تنظيم «داعش»، وهو ما يقابل برفض واضح من قبل الطرف الآخر الذي يدرك أن تلك المشاركة حتى وإن اقتصرت على توفير الغطاء الجوي للمعركة المرتقبة، تنطوي على مخاطر كبرى بالنظر إلى تجارب سابقة.
وينطلق هذا الرفض من عاملين أساسيين، أولهما أن دخول الولايات المتحدة على خط المعركة ضد «داعش» في رأس بعلبك والقاع، يمنحها إنجازاً ميدانياً في منطقة بالغة الحساسية في الصراع السوري على طبق من ذهب، وثانيهما أن التدخل الميداني بحد ذاته يمكن أن يشكل صاعق تفجير إضافياً – بصرف النظر عن النوايا – باعتباره يضيق نقاط التماس بين الجيش الأميركي (أو طيرانه) وبين «حزب الله» والجيش السوري إلى المدى الذي لا يمكن معه تجنب أي احتكاك.
دير الزُّور
ولعل ما ينطبق على الجرود الحدودية ينسحب على مناطق تصعيد أخرى في سوريا. وعلى هذا الأساس، وبصرف النظر عن الضغوط الممارسة هنا وهناك، لا يبدو أحد مستعداً لمخاطرة كهذه، خصوصاً أن كافة طرق الصراع في المشرق العربي باتت تتمحور حول جبهة دير الزور التي حقق فيها الجيش السوري اختراقاً كبيراً قبل أيام، حين تمكن من انتزاع السيطرة على مدينة السخنة الاستراتيجية في معارك البادية السورية، ما يجعل الطريق مفتوحاً أمام فك الحصار عن حاميته المحاصرة منذ سنوات.
وعلى المقلب الآخر، فإن الولايات المتحدة ما زالت تحشد شمال دير الزور كل ما يمكن أن يدور في فلكها من فصائل مسلحة، سواء تلك التابعة لما يسمى الجيش السوري الحر أو قوات سوريا الديموقراطية.
هذه الاستعدادات المتبادلة، تشي بأن ثمة سباقاً يجري باتجاه دير الزور باعتبارها النقطة المفصلية في الصراع السوري، فالطرف الذي سينجح أولاً في استعادتها من «داعش»، ستكون له الأرجحية في فرض شروط الحل.
وهذا ما يفسر، على سبيل المثال، قيام الولايات المتحدة باكراً بالتشويش على المعركة الكبرى، وهو ما تبدّى خصوصاً في هجمات التوماهوك على مطار الشعيرات – تحت ذريعة كيميائي خان شيخون – فالمطار، بحد ذاته، يمثل نقطة ارتكاز أساسية في معركة دير الزور، سواء على المستوى اللوجستي أو العملاني، وهذا ما أثار حساسية الروس تجاه الهجوم، فهم نظروا إلى الموضوع باعتباره أبعد من استفزاز، ولذلك فإنّ ثمة تقارير بدأت تتداولها وسائل إعلام روسية وغربية، تشير إلى أن الجيش الروسي فعل كل ما يمكن فعله لتجنب ضرب المطار، حتى بلغ الأمر درجة استخدام انظمة تشويش الكترونية حالت دون إصابة الصواريخ الأميركية أهدافها.
تسويات مؤقتة
وفي العموم، فإن الأشهر التسعة التي أعقبت معركة حلب كانت واضحة في مفاعليها، فتنظيم «داعش»، وبعد فترة تمدد، عاد إلى حجمه الطبيعي، لا بل بات الرقم الأضعف في المعادلة وجبهات المواجهة الممتدة من العراق، مروراً بسوريا وصولاً إلى لبنان باتت بحكم التسويات المؤقتة والهشة في آن بانتظار ما ستنتهي إليه المفاوضات السياسية بين روسيا والولايات المتحدة من جهة، ومعركة دير الزور المفصلية من جهة أخرى… وبينهما جملة استحقاقات قد تفجر التسوية، بقدر ما قد تسرّعها، ولعلّ أقربها زمنياً، استفتاء كردستان العراق، الذي ستتمحور حوله كافة الاتصالات الدولية حتى شهر أيلول الذي قد يخشى كثيرون أن تحوّله مغامرة مسعود البرزاني إلى «أيلول أسود»!
Leave a Reply