تجاهل وزراء الصناعة، حسين الحاج حسن، والزراعة غازي زعيتر، والأشغال يوسف فنيانوس كل الاعتراضات الصاخبة من قبل قوى 14 آذار على زيارتهم إلى سوريا، وتوجهوا إلى دمشق للمشاركة في معرض دمشق الدولي، حيث أقيم لهم استقبال رسمي يعكس مدى أهمية الزيارة، في توقيتها وفي دلالاتها.
صحيح أن «حزب الله» موجود في سوريا بلحمه ودمه، وصحيح أن «حركة أمل» و«تيار المردة» هما أساساً حليفان لدمشق، لكن ذلك لا يلغي الطابع الاستثنائي الذي اكتسبته زيارة وزراء تلك الأطراف إلى سوريا، باعتبارها اتخذت صفة وزارية – سياسية، برغم محاولة رئيس الحكومة سعد الحريري ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع إضفاء صفة شخصية وحزبية عليها.
ويعكس هذا التواصل الرسمي والعلني بين مسؤولين لبنانيين وآخرين سوريين حجم التحول الذي طرأ على المشهدين الداخلي والإقليمي، وبالتالي يؤشر الى موازين قوى جديدة تمنح الأرجحية الميدانية والسياسية لمحور المقاومة والممانعة.
بعد تحرير جرود عرسال من جبهة النصرة، وتلاحق الانتصارات العسكرية للجيش السوري وحلفائه على الجبهات السورية امتداداً حتى الحدود العراقية والأردنية، أتت زيارة وزراء 8 آذار إلى دمشق لتشكل خرقاً في أسوار المقاطعة اللبنانية الرسمية للدولة السورية، وهي مقاطعة تمت تحت شعار النأي بالنفس الذي يبدو أن مدة صلاحيته شارفت على الانتهاء.
اعتراض.. صوتي
ولئن كانت بعض أطراف 14 آذار قد اعترضت بصوت مرتفع على خطوة الوزراء الذين توجهوا الى دمشق، محذرة من تداعياتها المحتملة على الواقع اللبناني، لكن الأرجح أن هذا الموقف لن يتعدى حدود الزوبعة في فنجان أوالصراخ في واد، وبالتالي لن تكون له مفاعيل عملية، لاسيما في ما يتعلق بوضع الحكومة التي مهما اهتزت فإنها لن تقع، لأن هناك مصلحة للجميع في المحافظة عليها حتى موعد الانتخابات النيابية المقبلة.
يعرف الحريري أن الحكومة الحالية تكاد تكون، على علاتها، الشجرة الوحيدة التي يستظل بها بعد تراجع قدراته المالية وتقلص قاعدته الشعبية. بهذا المعنى، باتت رئاسة الحكومة بالنسبة له المصدر الوحيد لاستجرار طاقة السلطة في ظل التقنين الذي يعاني منه «تياره»، ولذلك فهو لن يجازف بأي رد فعل متهور يعيده إلى الصفوف الخلفية.
وحتى سمير جعجع الذي بدا من أشد الرافضين للزيارة الوزارية الى سوريا، لا يملك أكثر من تسجيل الموقف، لانه يدرك أن فرط الحكومة سيؤدي به الى التفريط بحصة وزارية وازنة قد لا تتكرر في اي وقت.
وعليه، فإن التعايش بين أضداد مجلس الوزراء سيستمر على قاعدة ربط النزاع حول المسائل الخلافية الاستراتيجية، مع احتفاظ كل طرف بهامش للمناورة والتحرك، كما فعل فريق 8 آذار الذي التقط اللحظة المناسبة ليفتح أبواباً كانت مقفلة مع دمشق منذ عام 2011.
مراهقة سياسية!
ويتساءل المؤيدون لانفتاح الدولة اللبنانية على سوريا عن الحكمة في إبقاء أبواب العلاقة الرسمية موصدة، وتجاهل حقائق التاريخ والجغرافيا ومقتضيات المصلحة والجيرة، في ظل الحدود المشتركة والتداخل الاجتماعي، في حين أن عواصم غربية وإقليمية بعيدة في المسافة، ومعروفة بعدائها الشديد للرئيس السوري، توقفت عن المطالبة المتكررة بتنحيه وراحت تتعامل ببراغماتية مع الوقائع المستجدة.
ويدل الخلاف حول زيارة عدد من الوزراء الى دمشق على نوع من المراهقة السياسية لدى بعض المتعاطين بالشأن العام، وكأن مصير النظام السوري وشرعيته يتوقفان على مزاج هذا السياسي أو ذاك من محترفي التنظير، علماً أن هناك سفيراً معتمداً لسوريا في بيروت وسفيراً للبنان في دمشق عيّنه مجلس الوزراء قبل فترة وجيزة هو سعد زخيا، فهل يمكن للنظام أن يكتسب شرعية أوضح وأكبر من هذه؟
ثم ليس مفهوماً كيف أن البعض يتحسس من زيارة وزارية تقنية الى دمشق، متجاهلا في الوقت ذاته أن لبنان يستجر الكهرباء من سوريا، وأن المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم يتواصل باسم الدولة اللبنانية مع القيادة السورية للتنسيق في ملفات أمنية حيوية.
ولعل أسوأ أنواع المكابرة هي تلك التي تتعلق بعمل الجيش اللبناني، خصوصاً لجهة تحرير جرود القاع وراس بعلبك من «داعش»، وهذه عملية تتطلب وفق كبار الضباط في المؤسسة العسكرية تنسيقا معيناً مع الجيش السوري على الجبهة الأخرى.
والمستهجن ايضاً أن هناك من يرفض التواصل مع دمشق، بينما يوجد على أرض لبنان أكثر من مليون ونصف مليون نازح، تتطلب عودتهم الكلية أو الجزئية، تنسيقاً مع الحكومة السورية التي يفترض أن تكون معنية بالمشاركة في تحمل مسؤولية معالجة هذه القضية.
كما أن السوق السورية تشكل متنفساً للعديد من المنتوجات الزراعية اللبنانية، وقد بادرت سوريا قبل مدة الى شراء كميات كبيرة من محصول الموز اللبناني بعدما ضاقت أمامه الأسواق العربية، الامر الذي يُستدل منه على أهمية بقاء العلاقة والحدود بين الدولتين منتظمة.
وفوق هذا كله، يجدر التوقف عند حقيقة أن الاتفاقيات التي تنظم العلاقة اللبنانية – السورية بموجب معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق، لا تزال سارية المفعول بكل ما تنطوي عليه من حقوق وواجبات، لا بد للبنان من التقيد بها دستورياً وقانونياً، بمعزل عن طبيعة العواطف المعروفة لخصوم القيادة السورية حيال تلك المعاهدة والاتفاقيات التي ترتبت عليها.
وأمام رد الفعل الحاد الذي صدر عن معارضي التواصل الرسمي مع دمشق، قفز إلى دائرة التداول السؤال الآتي: ماذا لو علت أصوات من فريق 8 آذار لاحقاً تعترض على زيارات يقوم بها مسؤولون الى السعودية أو الولايات المتحدة الاميركية، ربطا بخصومة هذا الفريق مع هاتين الدولتين وقناعته بأن سياستهما تتعارض مع مصالح لبنان؟
Leave a Reply