لعلّ كثيرين نظروا باستغراب، قبل عامين، حينما تحوّل عبد الملك الحوثي من العدو اللدود للرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، إلى حليفه الوحيد.
لم تكن انعطافة الرئيس اليمني السابق تجاه زعيم حركة «انصار الله» أمراً سهلاً، فالرجلان خاضا ستة من أكثر الحروب ضرواة في تاريخ اليمن الحديث، وكان بينهما «ما صنع الحدّاد»، في بيئة قبلية تؤمن بالثأر من القاتل، فكيف إذا كانت الضحية شقيق عبد الملك نفسه، السيد حسين الحوثي الذي قتله جيش صالح قبل أكثر من عشرة أعوام؟
تحالف الضرورة
مع ذلك، فإن آخرين تعاملوا مع ذلك التقارب الغريب الذي طرأ على العلاقة المعقّدة بين صالح والحوثي بوصفه تحالف الضرورة ضد عدوّ مشترك يتمثل في المملكة السعودية التي تخلّت بطريقة لا تخلو من الغدر، عن الرئيس اليمني السابق، مانحةً «الشرعية» لنائبه عبد ربه منصور هادي.
انطلاقاً من تحالف الضرورة هذا، كان مفهوماً أن تؤدي التطوّرات التي عصفت باليمن منذ بداية الأزمة السياسية في العام 2014، والتي تحوّلت فيما بعد، الى اقتتال داخلي، ومن ثم إلى عدوان سعودي مباشر بغطاء خليجي ودولي، بعد بضعة أشهر، إلى إعادة خلط الأوراق، وتنحية إرهاصات الماضي بين صالح والحوثي، خصوصاً أن قاعدة «لا ثوابت في السياسة» باتت تحكم الكثير من الملفات في المنطقة العربية كما في العالم بأسره.
ولعلّ الكل يتفقون على أن التحالف بين علي عبد الله صالح والحوثيين لا يستند إلى أسس ثابتة، فالمصالح الآنية، كانت ولا تزال الحاكمة في العلاقة المعقدة بين الطرفين، لذلك فإنّ التصدّع الذي شهدته الساحة اليمنية بين الحليفين اللدودين، خلال الأيام الأخيرة، بدا أمراً متوقعاً، وإن كانت التقديرات بشأن تطوّراته تبقى متراوحة ضمن مروحة خيارات تلامس الحرب والمصالحة في آن واحد.
ولا يخفى أن التحالف بين علي عبد الله صالح وعبد الملك الحوثي كان متذبذباً منذ البداية، ومع ذلك فقد حققت القوتان مجتمعتين مكاسب إقليمية ضخمة في الشمال، باستخدام القوة الحوثية القتالية جنباً إلى جنب مع الأجهزة العسكرية التقليدية التي يديرها الموالون للرئيس اليمني السابق، وقد شكل الطرفان تركيبة قوية جعلت اليمن قادراً على مواجهة آلة التدمير السعودية.
استفادة متبادلة
وكان واضحاً ان هذا التحالف قد حقق مكاسب واضحة لكليهما، فقد استفاد عبد الملك الحوثي كثيرا من الخبرة الإدارية والسياسية لعلي عبد الله صالح، وبالإضافة إلى ذلك، فقد انشق جزء كبير من الجيش اليمني وأدى اليمين للرئيس السابق. وفر قدرة تقليدية على القتال. وفي المقابل، استفاد علي عبد الله صالح، بدوره، من استيلاء الحوثيين على صنعاء وكتلتهم الشعبية الضخمة التي أعادت إليه بعضاً من المكانة التي كاد يفقدها بعدما «خلعه» الحراك الشعبي الذي انطلق في مطلع العام 2011.
وقد ساهم الحوثيون بعدد أكبر بكثير من المقاتلين في خط المواجهة، وهم مختلفون من الناحية المفاهيمية والتنظيمية عن الموالين لصالح، فحزب «المؤتمر الشعبي العام» هو حزب سياسي مبني على المصالح العرقية والطائفية ويحافظ على صلات قوية مع حكومات مجلس التعاون الخليجي، وأما الحوثيون فيفخرون بالقتال لأجل المبادئ الدينية والعيش في الجبال، ما يجعلهم مرنين في ساحة المعركة، ولكن أقل مرونة على طاولة المفاوضات.
انطلاقاً من ذلك، فإنّ التصدّع المتزايد بين المكونين الرئيسيين في الساحة اليمنية قد يؤدي إلى تداعيات سياسية غير محسوبة، خصوصاً ان السعودية تبحث، من دون أدنى شك، عن اختراقات تؤمن لها في السياسة كما في الميدانما عجزت آلتها الحربية التدميرية على القيام به.
خلط أوراق
على هذا الأساس، فإن ما شهدته العاصمة اليمنية صنعاء، الأسبوع الماضي من أحداث، منذ خروج مناصري «المؤتمر الشعبي العام» إلى الشوارع في الرابع والعشرين من آب، دعماً لعلي عبد الله صالح، وما رافق ذلك من تحذيرات أطلقتها وسائل الإعلام الحوثية، قد زاد المخاوف من احتمال أن تؤدي تلك التطورات إلى خلط جديد للأوراق، في ظل براغماتية علي عبد الله صالح، الذين قد لا يتوانى عن عقد صفقة مع الشيطان من اجل تثبيت حكمه، في مقابل راديكالية عبد الملك الحوثي الذي بات جزءاً من المشهد الإقليمي الأوسع المتمثل في صراع المحاور على امتداد الشرق الأوسط.
وبرغم اتساع الصدع القائم بين عبد الملك الحوثي وعلي عبد الله صالح، والذي بلغ ذروته خلال الأيام الماضية، إلا أن الطرفين يعملان على احتواء الموقف المتدهور وهو ما تبدّى في سلسلة لقاءات عقدت منذ أحداث الرابع والعشرين من آب، وسط حديث عن احتمالات صعبة للحرب وأخرى لا تقل صعوبة للمصالحة.
ولعل شعرة معاوية التي ما زالت قائمة بين الطرفين، والتي تجعلهما راغبين في رأب الصدع تتمثل في أن أي خلل في التحالف ستكون نتيجته ضرراً مشتركاً، فالحوثيون سيضطرون إلى مواصلة القتال دون الاستناد إلى القوة السياسية، في حين أن جماعة علي عبد الله صالح ستكون مضطرة للدخول في مفاوضات مع جهات محلية وإقليمية دون الاستناد إلى قوة عسكرية.
ولكن ثمة محرّكات خارجية قد تدفع الأمور باتجاه السيناريوهات الأكثر كارثية، فالقوى الخارجية وتحديداً السعودية والإمارات تدفع باتجاه تهيئة الظروف المواتية التي قد تساعدها على تحقيق إنجاز ما في الساحة اليمنية عبر سياسة فرّق تسد، لا سيما بعد فشل الحملة العسكرية السعودية في تحقيق أي من أهدافها، سوى القتل والتدمير والتسبب بأسوأ مجاعات القرن.
وربما يبحث السعوديون في هذا الإطار عن مخرج سياسي، يتمثل في إعادة علي عبد الله صالح، أو أحد من أفراد عائلته، إلى موقع حكم، وهذه الخطوة لا شك أنها تصبح أكثر أهمية في حال تقوّض التحالف بين الرئيس السابق وحركة «أنصار الله» الحوثية.
مما لا شك فيه أن علي عبد الله صالح أظهر أنه لا يزال قوة لا يجب الاستهانة بها، وإذا ما استعيدت تجربته في حكم اليمن، قبل العام 2011، لأمكن القول إنه ربما لا يزال راغباً في استعادة بعض من تكتيكاته السياسية عبر المراوغة وفك التحالفات لدفع مجلس التعاون الخليجي لدعم خطة انتقالية يصبح فيها المؤتمر الشعبي العام قريبا من المعسكر الخليجي.
وقد يتعلق الأمر بعلي عبد الله صالح نفسه، في التسوية المحتملة أو لابنه أحمد علي صالح الذي اتهم الحوثيون قبل أيام بمحاولة اغتياله – وهي من بين الأحداث التي تسببت في تصاعد التوتر بين الجانبين.
ومن المرجّح أن يكون هذا السيناريو خشبة الخلاص التي سيمسك بها المعسكر الخليجي للوصول إلى بر الأمان في المستنقع اليمني، فمن شأن خلط الأوراق الداخلية في اليمن، أن يفتح باب الخروج أمام السعودية لانهاء عدوانها على اليمن وذلك من خلال ضم كافة الأطراف المعادية للحوثيين – وخلفهما إيران – لتقريب الأمور من مستوى الحسم.
محور المقاومة أقوى
ومع ذلك، فإنّ هذا الطريق إلى هذا الخيار ليس سهلاً، فالكل يدرك أن الحوثيين لا يزالون الرقم الصعب في المعادلة اليمنية. وربما يكون قد غاب عن واضعي السياسات أن علي عبد الله صالح عجز حتى حين كان في كامل جبروته في إنهاء ستّ حروب ضارية مع الحوثيين في جبال صعدة، برغم الدعم غير المحدود الذي كان يتلقاه من السعودية والولايات المتحدة، فكيف الحال اليوم، في ظل تنامي قوة الحوثيين، سواء على مستوى القدرات العسكرية أو على مستوى رقعة الانتشار الجغرافي من جهة، وبعد تحوّل اليمن إلى جبهة متقدمة لصراع المحاور بين إيران والسعودية!
كل ما سبق يدفع إلى الاعتقاد أن الصراع اليمني ليس بتلك البساطة التي تجعل مجرّد إعادة خلط للأوراق المحلية كفيلاً بإنهائه، فالصراع الإقليمي يتصاعد بوتيرة متسارعة، و«محور المقاومة» الذي تقوده إيران، والذي بات يحظى بغطاء دولي روسي بات أقوى من أن يفقد أحدى أوراقه في نقطة حساسة مثل اليمن، خصوصاً بعد سلسلة الانجازات التي تحققت له خلال الآونة الأخيرة من حدود العراق مروراً بالبادية السورية والمعابر مع الأردن، وصولاً إلى جرود السلسلة الشرقية للبنان.
Leave a Reply