لا تعبير يسمو فوق توصيف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمعركة دير الزور. هو «النصر الاستراتيجي» الذي لا تكمن أهميته في الاختراق الهائل الذي حققه الجيش السوري وحلفاؤه للمدينة المحاصرة فحسب، ولا حتى في كونه يمثل البداية الفعلية لانهيار تنظيم «داعش» الإرهابي، بل لكونه نقطة تحوّل من شأنها أن تعيد تصويب بوصلة الحرب على سوريا.
لا شك في أن معركة دير الزور هي الأطول، والأكثر أهمية، مقارنة بكافة المعارك التي شهدتها جبهات القتال على مدار السنوات السبع من الصراع في سوريا، وعليها، لا بل إنها باتت في لغة الإعلام «أم المعارك»، ولا تضاهيها في طابعها الاستراتيجي سوى معركة حلب، التي شكلت بدورها نقطة مفصلية في المعادلات الميدانية.
1420 يوما!
ولا شك في أن معركة دير الزور ستدخل التاريخ، بعدما تمكنت حامية الجيش السوري المطوّقة بالإرهاب «الداعشي» – كما تمكن داعموه المباشرون وغير المباشرين – من الصمود على مدار 1420 يوماً ما يجعل كسر حصارها يضاهي، أو حتى يفوق، ما شهدته مثيلاتها في التاريخ الحديث، بما في ذلك مدينة لينينغراد (سانت بطرسبرغ حالياً)، بصمودها الأسطوري أمام الجيش النازي.
وأيّاً تكن العوامل العسكرية التي ستُدخل دير الزور التاريخ العالمي من أوسع أبوابه، فإنّ العامل الأكثر أهمية في الاختراق الذي حققه الجيش السوري، بمؤازرة مباشرة، وطويلة الأمد، من الروس والإيرانيين و«حزب الله» وسائر الحلفاء على هذه الجبهة، يبقى في طابعه الاستراتيجي، الذي يتجاوز الميدان، بمعناه الضيق، باتجاه خيارات مستقبلية، تسقط معها الكثير من المخططات التي حيكت في غرف العمليات الممتدة من اسطنبول، إلى دهاليز مقرّات أجهزة الاستخبارات الممتدة من واشنطن إلى الرياض.
بوتين .. شريك النصر
تلك الأهمية الاستراتيجية رسم ملامحها فلاديمير بوتين، شريك سوريا في النصر، حين علّق على كسر حصار دير الزور بالقول إن «الوضع الميداني يتغير جذرياً» لمصلحة الجيش السوري، معرباً عن أمله في أن يستكمل شركاء روسيا عمليتهم العسكرية ضد «داعش» في الرقة.
في حقيقة الأمر، ثمة أمران يمكن استخلاصهما من حديث بوتين، الذي يبدو في الظاهر مغلّفاً بعبارات الدبلوماسية الروسية ذات الطبيعة الخاصة.
الأمر الأول، أن الحديث عن «تغيير جذري» لمصلحة «الجيش النظامي»، يعبّر عن حقيقة راسخة، يبدو أن جهات إقليمية ودولية عدّة، قد بدأت في استيعابها، وهي أن كل كلام عن «إسقاط النظام» في سوريا، او رحيل الرئيس بشار الأسد مكرهاً عن الحكم، هو مجرّد تخاريف سياسية، يحتاج مطلقوها، من غربيين وخليجيين – ومؤخراً لبنانيين، إمّا إلى دلو من الماء المثلج يسكب على رأسهم لكي يستفيقوا من غيبوبتهم، وإما إلى مصحّة نفسية لكي يستعيدوا حس الإدارك المفقود نتيجة لحبوب الهلوسة السياسية.
والأمر الثاني، أن التمنيات بإنجاز استراتيجي مشابه في مدينة الرقة، يعني أن ثمة كرة يريد الرئيس الروسي تمريرها إلى الجانب الأميركي، لتسجيل هدف يحفظ ماء وجه دونالد ترامب، وذلك لتثبيت تفاهمات هامبورغ، التي أثمرت حتى الآن اتفاقاً ناجحاً لخفض مناطق التصعيد كمقدّمة لحل سياسي مستدام للازمة السورية.
هذا التوجه يمكن قراءته في تعليق بوتين نفسه على مجريات معركة دير الزور، حين شدد على ضرورة إطلاق مفاوضات التسوية، وتثبيت نظام الهدنة في مناطق خفض التوتر، لا بل أضاف أنه «فور انتهاء المعارك في دير الزور، بما يعنيه ذلك من تكبيد الإرهابيين هزيمة نكراء، ستحصل القوات الحكومية وحكومة الأسد على تفوق لا جدال فيه، وبالتالي يجب القيام بالخطوة التالية لتثبيت نظام وقف النار وتعزيز مناطق خفض التوتر وإطلاق العملية السياسية».
ولكن ما لم يقله الرئيس الروسي – لأسباب دبلوماسية – يمكن تلمّس أبعد منه، في ربط كلامه، بالمعطيات الميدانية على الأرض السورية، ضمن خط زمني يمتد منذ اللحظة الأولى التي أعطى فيها الضوء الأخضر للجيش الروسي للتدخل عسكرياً في سوريا، ابتداءً بتخفيف الضغط عن الجيش السوري في أرياف حمص واللاذقية، مروراً بحلب والبادية، وصولاً إلى معركة المعابر الحدودية مع العراق، وأخيراً معركة دير الزور.
سيناريوهات
ضمن هذا السياق، تكرّرت سيناريوهات باتت مرتبطة بالعلاقات الروسية – الأميركية، وفي القلب منها الملف السوري، فتماماً كما حدث منذ بدء ما صار يسمّى بـ«عاصفة السوخوي»، إزداد الحديث في الآونة الأخيرة عن أن الولايات المتحدة لن تسمح للجيش السوري بالوصول إلى الشرق، لا بل أن أحد أهداف ضربة التوماهوك على مطار الشعيرات، كان يندرج ضمن ذلك الضوء الأحمر الأميركي.
ولكن ما حدث بعد ذلك، جعل ذلك الضوء الأحمر ينطفئ على ضوء أخضر، أو في أفضل الأحوال ضوء أصفر، يعكس أزمة المشروع الأميركي في سوريا.
وللتوضيح أكثر، فإن كل ما رافق التطوّرات الميدانية، طوال العامين الماضيين، في سوريا، قد حاول البعض أن يُسقط عليه نظرية «سوريا المفيدة»، بما تعنيه من تقاسم نفوذ روسي – أميركي (وربما إيراني واسرائيلي على نحو غير مباشر)، بما يستتبع ذلك من تقسيم التراب السوري، بين دويلات أو كانتونات علوية وسنّية وكردية… إلى آخر تلك المسمّيات.
وقد تكون روسيا – وبوتين على وجه الخصوص – قد عززت هذا الانطباع، من خلال تفاهمات سياسية، تلقّفها الأميركيون، باعتبارها تلبي مشروعهم التقسيمي، وهو ما يفسّر على سبيل المثال، السلام الذي حل على العديد من جبهات القتال، جنوباً وشمالاً ووسطاً، في إطار ما بات يعرف اليوم باسم «مناطق خفض التصعيد».
كل ذلك، دفع بالبعض إلى اعتبار ما جرى في دير الزور، اختراقاً عسكرياً روسياً – سورياً، يستتبع في نهاية المطالب تحقيق محدد، وهو ضم الجبهة الشرقية إلى مشروع «سوريا المفيدة»، الذي يتفق الكل على كونه مشروعاً تفتيتياً، ولكنهم يختلفون في من يروّج له، ويسعى إلى تحقيقه.
ولكن حسابات الحقل السياسي شيء، وحسابات البيدر العسكري شيء آخر. هذا الأمر، تؤكده طبيعة التحركات التكتيكية والاستراتيجية الروسية في أكثر من محطة – وبعضها يتجاوز الميدان السوري – فالقيادة الروسية الحالية تسير وفق نظرية أن الكلمة للميدان أولاً، وللسياسة ثانياً، وما حديث بوتين، بالتالي، عن تغيير جذري في الوضع الميداني سوى تعبير غير مباشر على تغيير جذري في الوضع السياسي، بما يشمل التفاهمات القائمة، منذ لقاء هامبورغ.
الاستراتيجي قبل التكتيكي
على هذا الأساس، يمكن صرف النظر عن التكتيك، لصالح الاستراتيجيا، فمعركة دير الزور في حقيقة الأمر، تتجاوز بأشواط مشروع «سوريا المفيدة» لصالح المشروع الطبيعي الذي يمكن تسميته بـ«سوريا الموحّدة».
ولا شك في أن هذا التحوّل لم يكن ليحدث لولا التعثر الأميركي، الذي جعل الرهان على الأكراد في الشمال السوري فاشلاً، والرهان على العشائر العربية في الشرق السوري أكثر فشلاً، وأن هذين الطرفين سرعان ما سيلاقيان روسيا من جهة، والدولة السورية من جهة ثانية، في إطار تقاطع مصالح، يدفع باتجاه سحب الكثير من الأوراق من أيدي الأميركيين لينحصر الصراع بذلك في إدلب… التي فيها كلام آخر!
Leave a Reply