إنتهت معارك تحرير جرود السلسلة الشرقية من جبال لبنان، ومعرفة مصير العسكريين المخطوفين التسعة، وهو كان عنوان العملية العسكرية التي قام بها الجيش اللبناني في جرود رأس بعلبك والقاع تحت شعار «فجر الجرود»، واحتفل اللبنانيون بهذا الإنتصار للتحرير الثاني، إلا أن سجالاً داخلياً، فُتح لتحديد المسؤولية، عمّن تسبب بخطف هؤلاء الجنود وأهمل واجباته ولم يقم بمهمة تحريرهم، هل هو القرار السياسي الذي تتّخذه الحكومة أم قيادة الجيش التي تلكأت عن حماية عسكرييها، والرد على مَن قتل عشرين منهم ومن بينهم الضابطان نور الجمل وداني حرب داخل مراكزهم؟
السجال الداخلي
هذا السجال السياسي والإعلامي والشعبي، هدد لبنان بتأجيج الإنقسام حول الجيش ودوره، وأعاد التذكير بمرحلة من تاريخ لبنان، كان الخلاف فيها حول الجيش ومهامه وصلاحياته، وهو كان واحداً من الأسباب التي أدّت الى نشوب الحرب الأهلية، التي كانت قوى وطنية تطالب بتسليحه وتجهيزه وإعطائه الأوامر للتصدي للإعتداءات الإسرائيلية التي تكاثرت على لبنان منذ العام 1969 وظهور المقاومة الفلسطينية على أرضه التي إصطدمت بالجيش الذي إنتصر له فريق سياسي كانت تمثله أحزاب مسيحية ونُعتت بالإنعزالية ورفعت شعار «قوة لبنان في ضعفه».
الثقة بالجيش
أما في الحالة الحالية للجيش، فليس يشبه ما كان عليه عشية الحرب الأهلية، لا بل ومنذ ما بعد إتفاق الطائف الذي نصّ على ضرورة وجود عقيدة قتالية له، فإن الوضع إختلف مع التنسيق الذي تمّ مع المقاومة، ورفض قيادة الجيش في مرحلة العماد إميل لحود الإصطدام بها، لأنها قوة للبنان وتعمل لتحرير أرضه، مما عزّز الثقة بالجيش الذي لم يقصّر في القيام بواجبه في التصدي للعدو الإسرائيلي، وسقط له شهداء، لاسيما في معركة سجد في أيلول 1997 عندما جابه الجيش مع المقاومة محاولة إنزال للعدو الإسرائيلي فسقط له شهداء منهم النقيب بيار عازار، والشهيد هادي نصرالله نجل الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله، وتكرّست في عملية التصدي هذه، مقولة «الجيش والشعب والمقاومة»، وبدأ مسار جديد من التعاون ومازال، إذ لم يتأخر الجيش عن التصدي لأية محاولة إختراق إسرائيلية للخط الأزرق أو الإعتداء على السيادة اللبنانية أو قضم أرض لبنانية، فكان دائماَ جاهزاً لمنع العدو الإسرائيلي من تحقيق أهدافه، وهو ما لم يكن يحصل في عقود سابقة إذ بات الجيش يطلق النار على دورية إسرائيلية حاولت اقتلاع شجرة من داخل الأرض اللبنانية في العديسة عند الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، وهذه كانت رسالة الى العدو الإسرائيلي أن العبور الى الأراضي اللبنانية ليس نزهة، وقد شهد اللبنانيون ما حلّ بالجيش الاسرائيلي الذي لا يُقهر عندما حاول تصفية المقاومة وتدمير سلاحها الصاروخي في صيف 2006، وكيف أنه لم يتمكن من التقدم خلال 33 يوماً من عدوانه إذ أثبتت الوقائع الميدانية، أن المقاومة باتت قوة ردع، وهذا ما أعطى للجيش هذه القوة أيضاً، وبأنه مسنود منها لأنه شريك مع المقاومة في التحرير الذي حصل عام 2000 والصمود بوجه العدوان صيف 2006.
التجربة نجحت
والتجربة التي نجحت في التحرير الأول عام 2000 تكرّست في التحرير الثاني في جرود السلسلة الشرقية التي كان الوجود الإرهابي فيها يشكّل خطراً فعلياً على لبنان وكيانه وشعبه والذي بات يشعر بالأمن والأمان والإستقرار بعد انجاز التحرير الثاني. إلا من بعض المجموعات والخلايا الإرهابية النائمة التي نجحت القوى الأمنية على مختلف مؤسساتها في كشف العديد منها، وإحباط محاولاتها الإجرامية والتخريبية.
التحقيق في خطف العسكريين
إلا أن ما تحقق من إنجاز عسكري وانتصار وتحرير شابته غصة وجود العسكريين المختطفين شهداء، مما رفع من منسوب الإتهامات حول مَن تسبّب بمصيرهم المأساوي، وقد قتلوا بعد سبعة أشهر من اختطافهم، أي في شباط 2015 حيث عاش أهاليهم على أمل الإنتظار بإستعادتهم سالمين، إلا أن تنظيم «داعش» قتل ثمانية منهم بعد أن مارس عليهم كل أنواع التعذيب النفسي والجسدي والمعنوي، واستطاع أن يستميل واحداً منهم يدعى عبدالرحيم دياب جنّده خاله المنتمي الى «داعش» وقاتل مع التنظيم الإرهابي، حيث ذكرت المعلومات أنه قُتل في الرقة، وهو ما يحاول أهله نفيه، وأن ابنهم مفقود، وهذا ما رفضته قيادة الجيش وطردته من صفوفها.
مسؤولية قهوجي
أما كيف سيتّجه الوضع السياسي والقضائي مع الإعلان الرسمي عن وفاة الجنود المختطفين بإجراء فحوصات الـ D.N.A، وجزم المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، أن الجثث عائدة لهم، وابلغ قائد الجيش العماد جوزف عون الاهالي باستشهادهم واقامت لهم الحكومة ماتما رسميا و اعلنت الحداد الوطني والتعطيل يوم الجمعة فإن رئيس الجمهورية تدخل وأعلن إحالة القضية الى القضاء، ليوقف السجال السياسي حولها بعد أن حاول فريقه السياسي (التيار الوطني الحر) تحميل المسؤولية الى قائد الجيش السابق العماد جان قهوجي، بأنه لم يقم بواجبه لأن طموحه الرئاسي طغى على انتمائه العسكري، وأن «التيار الحر» عندما كان يرفض التمديد له لأنه كان يعلم أن الثمن الذي قبضه بعدم ملاحقة الإرهابيين وتحرير العسكريين منهم، كان رئاسة الجمهورية التي وُعد بها، في وقت كان العماد ميشال عون يسعى إليها أيضاً، وأن المطالبة بفتح تحقيق مع قهوجي، يعود لسببين الأول التمديد له في قيادة الجيش وطموحه الرئاسي. وكشف النائب جمال الجراح بأن العماد قهوجي أبلغ مَن إتصل به من المسؤولين، أن كلفة تحرير العسكريين المختطفين كما مواجهة المجموعات الإرهابية ستكون حوالي 500 مدني ونحو 130 عسكري، وأن الحكمة تقضي بأن نؤجل المعركة التي قال عنها العميد شامل روكز الذي كان قائداً لفوج المغاوير الذي أرسل الى عرسال لإسترداد المواقع العسكرية، بأن المعركة كانت لصالح الجيش لو سمحت به قيادة الجيش التي وتحت تأثير الضغط السياسي الذي مارسه طرف سياسي وهو «تيار المستقبل» مع «هيئة العلماء المسلمين»، إمتنعت عن خوض المعركة وهو ما سهّل للجماعات الإرهابية من نقل العسكريين من عرسال الى جرودها.
المحاسبة السياسية
وتبقى المحاسبة السياسية التي تتحمّلها الحكومة برئاسة سلام والتي كانت تقوم بصلاحيات رئيس الجمهورية، بعد إنتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان الذي حاولت بعض الأطراف السياسية تحميله مسؤولية ما جرى في عرسال، وكانت ولايته انتهت وغادر القصر الجمهوري في 25 أيار 2014، وقبل أحداث عرسال بشهرين، مما يعني أن الحكومة مجتمعة هي المسؤولة، وكل القوى السياسية كانت ممثلة فيها ما عدا «القوات اللبنانية» وهي نسخة للحكومة الحالية برئاسة سعد الحريري، وهذا ما يضعف من صحة المطالبين بالمحاسبة السياسية لأنهم كانوا من صناع القرار فيها إضافة الى أن لكل معركة عسكرية ظروفه، ولكل قرار سياسي وظيفته، وما كان من ظرف عسكري وسياسي في العام 2014 ليس كما هو اليوم، إذ كان صعود «داعش» قد بدأ مع احتلالها للموصل في حزيران 2014 وتمددها نحو الرقة ودير الزور وانتشارها في حمص وبادية الشام وجبال القلمون، إضافة الى أن المناخ الدولي والإقليمي كان مختلفاً، ولم يكن رئيس الحكومة تمام سلام وفريقه السياسي السّنّي (تيار المستقبل) يتحمل الهجوم على بلدة عرسال السّنّية وفق ما يبرر مؤيدون للرئيس سلام .
تحييد الجيش
لذلك فإن فتح ملف إختطاف العسكريين وما حصل في عرسال قبل أكثر من ثلاث سنوات وتكليف القضاء المدني أو العسكري فيه، هو لطمأنة أهالي العسكريين الذين بدأوا يطالبون بالإنتقام لأبنائهم لأن دماءهم لن تذهب هدراً، وضرورة كشف مَن تورّط في المصير الذي وصلوا إليه.
الجيش قوة لبنان
إلا أن التحقيق لكشف ما حصل، وهو ما طلبه الرئيس عون، لا يعني زج الجيش في خلافات داخلية وتحويل تقصير فيه، إذا حصل، لتشويه صورة المؤسسة العسكرية التي هي بإجماع اللبنانيين ناصعة، إذ لم تسجل إنحيازها الى أي فريق سياسي في الصراعات الداخلية، وبقيت على مسافة واحدة من الجميع، ونفّذت قرار السلطة السياسية بحفظ الأمن ونجحت وهي حافظت على الإستقرار الداخلي في ظل الفراغ الذي ضرب المؤسسات الدستورية في رئاسة الجمهورية والحكومة وشلل لا بل تعطيل في مجلس النواب، وهو ما دفع الرئيس نبيه برّي الى الدعوة للإستثمار بالأمن وطلب من النواب التبرع بشهر من راتبهم الى الجيش الذي لم يعد نقطة خلاف حوله، إلا من بعض مَن يحاول أن يوقع بينه وبين المقاومة، وسحبه من الثلاثية الذهبية «الجيش والشعب والمقاومة» لصالح أخرى يروّج لها رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، وهي «الدولة والجيش والشعب»، لكن الجواب جاءه من «حزب الله» وأمينه العام السيد حسن نصرالله، التقدير للجيش لما أنجزه من تحرير لجرود القاع ورأس بعلبك وإشادة بقدراته ودعوة لتعزيز تسليحه، مما ينفي كل ما قيل، إن المقاومة لا تريد الجيش قوياً كي يبقى «حزب الله»ممسكاً بقرار «الحرب والسلم»، من خارج سلطة الدولة التي لا يمكن أن تحمل «دويلة ضمنها» وفق مواقف قادة 14 آذار أو ما يسمى بـ «الفريق السيادي» الذي لم يقم يوماً بأي عمل مقاوم ضد الإحتلال الإسرائيلي، لا بل كان بعضه من عملائه وبشكل علني.
إن لبنان ربح معركة قوته في جيشه الذي وإن حصل تقصير داخله، وهو وارد. إلا أنه أثبت في الميدان أنه يحمل عقيدة قتالية.
Leave a Reply