برغم استمرار الخلاف العميق بين إيران والسعودية بكل ما يعكسه من تداعيات على المنطقة، يصر «حزب الله» والرئيس سعد الحريري في لبنان على حماية التعايش السياسي بينهما، تحت سقف ربط النزاع حول القضايا الخلافية الاستراتيجية، مع احتفاظ كل طرف بموقفه وخياره.
وكان لافتاً للانتباه مؤخراً، أن الحزب والحريري تبادلا الإشارات الإيجابية واللغة المرنة، إلى حد أن نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم اعتبر أن رئيس الحكومة يتحلى بالعقلانية ويحرص على حماية الاستقرار الداخلي في هذه المرحلة.
لكن هذه المرونة لا تزال «عظماً رقيقاً»، لا يحتمل «الحمولة الزائدة» والمبالغة في التوقعات، من نوع افتراض عقد لقاء قريب بين السيد حسن نصرالله والحريري على سبيل المثال.
وينصح المقربون من الحزب بعدم الذهاب بعيداً في الاستنتاجات، مشيرين إلى أن موقف قاسم يأتي حصراً في سياق ملاقاة سلوك الحريري الذي يميل عموماً إلى عدم التطرف والتصعيد، إنما من دون أن يعني ذلك حصول تطور فوق العادة في قواعد «فض الاشتباك» التي أرسيت بين الطرفين منذ موافقة الحزب على عودة الحريري إلى السلطة ربطاً بموافقته على انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية.
يدرك الحريري أن المحور المضاد ربح الحرب في سوريا على المستوى الاستراتيجي وأن «الجيوب» المتبقية أضعف من أن تعيد تصحيح التوازن، ولذلك فهو بدأ تمريناته للتعايش مع المعادلة الجديدة. وليست زيارته الى روسيا وبراغماتيته في التعاطي مع الحزب سوى تعبير عن الواقعية الاضطرارية المحكوم باعتمادها في هذه المرحلة.
حدود الانعطاف
يحاول الحريري أن يحد من الخسائر بعدما ولى زمن الأرباح الصافية. هكذا فعل عندما قبل على مضض بانتخاب عون في مقابل عودته إلى رئاسة الحكومة، وهكذا يفعل حالياً حين وجد نفسه مضطراً إلى التكيف مع انتصارات «حزب الله» ومفاعيلها في سوريا والجرود حتى يبقى في رئاسة الحكومة.
ليست هناك أصلاً من خيارات كثيرة لدى الحريري الذي تآكل رصيده الشعبي والمالي خلال فترة «نفيه» من السلطة إلى حد أنه لم يعد لديه ما يخسره. وعليه، فهو وجد أن تعاونه مع عون يبقى أفضل من مخاصمته وتعايشه مع الحزب يظل أفضل من الصدام معه وتقربه من موسكو هو بالتأكيد أفضل من ابتعاده عنها.
لا يحتمل الحريري أن ينعطف الآن نحو دمشق، لاسيما أن الرياض «المكابرة» ليست في وارد إعطائه الإذن بذلك. الحل الآخر والأقل كلفة يكمن في ذهابه إلى موسكو وطلب توسطها لدى الرئيس بشار الأسد لمعالجة العديد من الملفات المشتركة العالقة، وصولاً الى محاولة حجز مكان منذ الآن في ورشة إعادة إعمار سوريا. إنه الزمن الروسي ولا بد من مجاراته.
أما بالنسبة إلى «حزب الله» فإن تحصين مناخ المهادنة بينه وبين الحريري يفيده، خصوصاً أن أولوياته واهتماماته الأساسية هي في مكان آخر، ثم أن التهدئة الداخلية تشكل جزءاً من شروط حماية ظهره والتفرغ للأمتار الأخيرة من المواجهة الحاسمة في سوريا.
من هنا، لا يمانع الحزب في التقاط الإشارات الإيجابية أو الواقعية التي تصدر عن الحريري من حين إلى آخر، إنما من دون أن يساور حارة حريك أي وهم بأن رئيس «تيار المستقبل» بصدد تغيير خياراته الكبرى ومغادرة محوره الإقليمي.
يشعر الحزب أن أولوية الحريري ومصلحته تكمنان في تأمين ولو في الحد الأدنى, الاستقرار السياسي والحكومي، وهذا ما يدفعه إلى تجنب الاصطدام بأحد أبرز مكونات مجلس الوزراء، لاسيما أنه يدرك أن «حزب الله» يمكنه أن يشكل قوة دفع للحكومة، تماماً كما بإمكانه أن يكون قوة تعطيل لها إذا جرى إحراجه أو الضغط عليه.
إلا أن هذا التقاطع عند المصلحة المشتركة التي تقضي بربط النزاع حتى أقصى الحدود الممكنة بين الجانبين، لا يحجب حقيقة أن ثمة ملفات ثقيلة تحول دون تطوير «التهدئة الموضعية» إلى «سلام دائم»، ومن بينها الخلاف حول الأزمة السورية وتعقيدات ملف المحكمة الدولية، والأصعب هو الموقف السعودي الآخذ في التصعيد إلى حد أن الوزير ثامر السبهان دعا اللبنانيين إلى الاختيار بين الوقوف مع «حزب الله» أو ضده بعدما وصفه بـ«حزب الشيطان»، علماً أن هذا الموقف يشكل بالدرجة الأولى عبئاً على الحريري الذي بات وفق منطق السبهان يجلس مع الشيطان في حكومة واحدة وينسق معه في الكثير من الأمور!
ليس تمرداً؟
بهذا المعنى، فان مواقف السبهان تنطوي على إحراج للحريري في المبدأ. لكن السعودية التي تدرك جيداً واقع رئيس «المستقبل» وضآلة بدائله ستترك له على الأرجح هامشاً لتنظيم الخلاف بينه بين الحزب، تماماً كما كانت قد منحته مساحة للاجتهاد حين ارتأى أن يدعم ترشيح عون الى الرئاسة برغم عدم حماستها لخيار الجنرال.
ويقول العارفون بطبيعة علاقة السعودية بـ«بيت الوسط»، إن التمايز بين سلوك الحريري وخطاب السبهان لا يجب أن يدفع إلى الاعتقاد بأن رئيس «المستقبل» يتمرد على الرياض أو يخالف إرادتها، خصوصاً أنه لا بديل له عنها كون علاقته بالمملكة هي من النوع «الوجودي».
«لقد سقط المشروع السعودي في سوريا بالضربة القاضية، والرياض تعتقد أن «حزب الله» كان رأس حربة في ضرب مشروعها ولذلك فهي تتصرف على قاعدة الانتقام منه». هذا ما تستنتجه شخصية حليفة للمقاومة تعتبر أن تغريدات السبهان عبر «تويتر» كانت تعكس أنين الموجوع وليس فقط المهزوم.
Leave a Reply