حالما أذيعت تفاصيل الهجوم المسلح في مدينة لاس فيغاس، صباح الاثنين الماضي، تنفس العرب والمسلمون الأميركيون الصعداء، فالمجرم الستيني الذي ارتكب واحدة من أكبر عمليات القتل الجماعي في تاريخ الولايات المتحدة لم يكن عربياً ولا مسلماً هذه المرة!
يعيش العرب والمسلمون في الولايات المتحدة هذا الامتحان العصيب في كل مرة يشنّ فيها هجوم مسلح يودي بمدنيين أبرياء، وإذا ما صودف أن كان القاتل من بني جلدتهم، فسوف تواصل قنوات «الإسلاموفوبيا» خطابها المعتاد في شيطنة الإسلام والإغراق في تصوير عدائه المتجذر لقيم الحضارة الغربية.
لو كان اسم القاتل محمد أو علي، لجن جنون المتعصبين والمتطرفين وعتاة اليمينيين الأميركيين، وسارعوا -وقبل الكشف عن نتائج التحقيقات- إلى توصيف الجريمة بـ«الإرهابية». أما وأن القاتل يدعى ستيفن بادوك.. فقد غدت المذبحة الكبيرة مجرد جريمة ذات طابع «جنائي» ارتكبها شخص مختل عقلياً، لأن القاتل -وعلى حد وصف الكثير من المسؤولين والمعلقين السياسيين- لم يمتلك دوافع إرهابية لإزهاقه 59 روحاً وإصابة ما يزيد عن 500 آخرين.
وفي هذا السياق، يبدو مثيراً ما أدلى به قائد شرطة مقاطعة كلارك التي تضم مدينة لاس فيغاس، جوزيف لومباردو حين أشار في مؤتمر صحفي إلى أن «الشرطة لا تعرف ما هي دوافع القاتل، ولا تعلم أي شيء بعد عن معتقده»، وكأن طبيعة المعتقد هي التي تحدد نوعية الدوافع! إذن.. لا غرابة في أن يكون المعتقد الإسلامي سبباً لتوجس من ساعة الطالب السوداني أحمد محمد (14 عاماً) والظن بأنها قنبلة موقوتة لمجرد أن الذي جاء بها إلى المدرسة طالب مسلم!
في مقالة نشرتها صحيفة «واشنطن بوست» تحت عنوان «المذبحة ستستمر»، يرى الكاتب أوجيني روبنسون أن السؤال الذي دفع ستيفن بادوك إلى تحويل لاس فيغاس إلى مسرح جريمة «هو في نهاية المطاف سؤال عقيم لأنه لا يمكن أن يوجد أي دافع منطقي لارتكاب جريمة قتل جماعي»، مضيفاً أن «السلطات الأميركية سارعت إلى القول إن الهجوم لم يكن إرهابياً كما لو أنّ هذا التقييم يقلّل من الرعب الذي أحدثه»!
عندما داهمت الشرطة جناح المعتدي في الطابق الـ32 في فندق «ماندلاي باي»، اكتشفت أن بادوك كان بحوزته العشرات من قطع السلاح، لذلك كان من الحري بهذه المذبحة الجماعية أن تفتح الباب على مصراعيه أمام إعادة التفكير بسهولة امتلاك الأشخاص للأسلحة في الولايات المتحدة، والتمتع بالجرأة للإعلان عن أن الزمن تجاوز الظروف التاريخية التي أجازت ذلك الحق للمواطنين الأميركيين.. وإنه آن الأوان لرمي الشعار المفضل لـ«الجمعية الوطنية للأسلحة» -أو لوبي الأسلحة (أن آر أي)- القائل: «الأسلحة لا تقتل .. البشر يفعلون». في سلة المهملات!
لقد كان الدافع الحقيقي لسنّ المادة الثانية في الدستور الأميركي (التي تضمن للأفراد الحق في التسلح) عائداً إلى قلق المشرعين الأميركيين الأوائل من استبداد الحكومة الفدرالية، فأكدوا على حق حمل السلاح وتشكيل المليشيات المنظمة.
وهذا التخريج لم يعد مقبولاً في القرن الحادي والعشرين فالأسلحة الفردية لا يمكنها أن تتصدى لحكومة جبارة، كالحكومة الفدرالية، بل يمكنها فقط أن تحصد أرواح عشرات آلاف الأميركيين سنوياً.
فقد أشار موقع «شوتينغ تراكر. كوم» -وهو موقع يرصد حوادث القتل الجماعي باستخدام أسلحة نارية فردية، إلى وقوع 40 حادثاً في الولايات المتحدة خلال العام الجاري، إضافة إلى 335 حادثاً لإطلاق نار أسفر كل منها عن مقتل أو جرح أقل من 4 أشخاص.
ويعرف الموقع حوادث القتل الجماعي بتلك التي يقتل فيها أربعة أشخاص أو أكثر.
ويستبعد المعلقون السياسيون قيام الرئيس دونالد ترامب -وكذلك الكونغرس الأميركي ذي الأغلبية الجمهورية- بما هو صائب حيال هذه المعضلة المتفاقمة، خاصة بعد أن سمحت المحكمة الدستورية العليا باتخاذ تدابير لمراقبة الأسلحة بموجب الدستور، وقد كتب العضو السابق في مجلس النواب الأميركي ستيف يسرائيل مقالاً في صحيفة «نيويورك تايمز»، استعرض فيه تجربته كمشرّع في الفترة بين 2001 وحتى كانون الثاني (يناير) الماضي، شهد خلالها 52 عملية قتل جماعي من دون أن يحدث شيء في أعقاب كل منها.
وكتب يسرائيل «كما كل شيء في واشنطن بات لوبي الأسلحة أكثر استقطاباً، فإن «الجمعية الوطنية للأسلحة» التي كانت في مرحلة ما داعمة لتطبيق تدابير السلامة على الأسلحة، وجدت نفسها مجبرة على معارضتها بسبب التنافس بين المنظمات، على قاعدة أنه كلما ازداد الاعتدال كلما تأثر السوق».
وكما توجد أسواق للبضائع، كذلك توجد أسواق للأفكار، فالاعتدال لا يجد من يشتريه في سوق هذه الأيام حيث الغلبة للتطرف والقسوة، ولهذا تجنب الرئيس ترامب قول الكثير عن هجوم لاس فيغاس، مكتفياً بتوصيف ديبلوماسي للهجوم بأنه يمثل «شر مطلق»، دون أن يصفه بـ«الإرهاب»، ولكم أن تتخيلوا حماسة الرئيس الأميركي وقسوته وتطرفه فيما لو كان القاتل عربياً أو مسلماً!
وكما هو معروف كان لوبي السلاح أول المؤيدين لحملة ترامب الرئاسية، وقد أعلن مراراً أن انتخابه أنهى ثماني سنوات من الاعتداءات على حق حمل السلاح! وهذا يشي بأن ليس ثمة حل لمشكلة امتلاك السلاح في الولايات المتحدة في المدى المنطور، ويعني أيضاً.. أن دماء الضحايا الـ59 ستذهب سدى في سوق السياسة الأميركية!
Leave a Reply