لا تزال سلسلة الرتب والرواتب في لبنان تتأرجح بين هبة باردة وأخرى ساخنة، برغم أنها أصبحت قانوناً نافذاً بعد إقرارها في مجلس النواب. والمفارقة، أن هناك في الحكومة من يلوح بإمكان إعادة تجميدها إذا تعثرت مصادر تمويلها المفترضة في ظل تقاطع المصالح بين بعض النواب المعترضين على الضرائب المقترحة وبين المصارف التي باتت تملك أكثر من حصان طروادة في داخل السلطة. وفي الأساس، يبدو أن بعض من أيد «السلسلة» على مستوى مركز القرار إنما فعل ذلك مكرهاً ومن دون قناعة، وكأنه كان يتصرف على قاعدة: «السلسلة اللي ما فيك ليها، بوسها وادعي عليها بالكسر».
ومن الواضح أن هناك من يتعمد التهويل على «السلسلة» والتخويف منها بذريعة معلنة وهي أن معدة الاقتصاد لا تستطيع هضم كلفتها الباهظة، في حين أن الغاية المضمرة من هذه الحرب النفسية تكمن في محاولة التملص من الضريبة المفروضة على المصارف والمؤسسات المالية.
وتؤكد مصادر مطلعة أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أبلغ رئيس الجمهورية ميشال عون بأن الدراسة التي أجراها البنك المركزي أثبتت أن الاقتصاد بمقدوره تحمل مفاعيل «السلسلة» وأن أثرها سيكون إيجابياً خلافاً لسيناريو الانهيار المالي الذي يروج له المتشائمون.
كما أن وزارة المالية توصلت إلى التقديرات ذاتها التي انتهى إليها المصرف المركزي وجزمت بأن «السلسلة» لن ترتب تداعيات سلبية على الاقتصاد.
ويشير خبير اقتصادي بارز إلى أن اللوبيات المالية تتعمد التهويل بإمكان حصول انهيار، لعلها تنجو من الواجبات الضريبية الملقاة على عاتقها، مستبعداً أن يتم الطعن مرة أخرى في مشروع قانون الضرائب المعدلة الذي أحالته الحكومة إلى المجلس النيابي لأن هذا المشروع راعى كل الملاحظات التي كان قد وضعها المجلس الدستوري.
«اعترافات» وزير
في المقابل، لا يتردد أحد الوزراء المتمولين في «بق البحصة» والإفراج عن مكنوناته أمام مجلس خاص: «معظم أعضاء الحكومة لا يقدرون جيداً خطورة الوضع المالي وغالباً ما يتعاملون مع الأرقام بخفة واستهتار، لدرجة انه عندما أبدي رأيي التقني في مجلس الوزراء أشعر بانني أتكلم الصينية»..
ويضيف الوزير «المنتفض»: الحقيقة المرّة هي أن أغلب الوزراء وافقوا على «السلسلة» لأسباب تتعلق بالشعبوية والمزايدات بالدرجة الأولى من دون تقدير دقيق لعواقبها وتبعاتها. همهم جميعاً أن يحصلوا على أكبر قدر ممكن من الأصوات في الانتخابات النيابية وهذا هو المعيار الوحيد الذي يتحكم بسلوكهم في هذه المرحلة، بينما يُفترض بالمسؤول الحقيقي أن يتصرف بطريقة مغايرة وأن يعتمد الحكمة في خياراته. أحياناً تكون مضطراً إلى اعتماد قرارات صعبة وغير شعبية، ومن يتصدى للشأن العام يجب أن يملك الجرأة على اتخاذ قرارات من هذا النوع، فلا يساير ولا يتهاون لاستقطاب صوت إضافي تارة وللمزايدة على خصم أو حليف طوراً.
ويقر الوزير «المغلوب على أمره»، بانه لا يستطيع أن يبوح بحقيقة رأيه أمام الآخرين، بمن فيهم أولئك الذين يتشارك معهم في الخط السياسي ذاته، شاكياً من وجود نوع من «الإرهاب الفكري» الذي يمنعك من الإفصاح عن قناعاتك بصراحة لأنك يمكن أن تتعرض لحملة شعواء من الخصوم المتربصين بك، وقد يلومك شركاؤك في الموقع السياسي بحجة أن هذا الطرح يهدد بفقدان جزء من التأييد الشعبي في توقيت لا يحتمل مثل هذه المغامرة.
ويتابع: وحده رئيس الجمهورية سمعني واقتنع بالكثير مما طرحته لكنه لا يستطيع لوحده أن يغير المعادلة..
ويعتبر الوزير ذاته أن الظروف الحالية لا تسمح موضوعياً بإقرار «السلسلة» وفق القواعد التي أرسيت عليها، مبدياً خشيته من أن نكون قد دخلنا في دوامة، ومشيراً إلى أنه حتى الذين استفادوا منها سيكتشفون لاحقاً أن ما حققوه من مكاسب هو ظرفي وعابر.
ويتوقف الوزير عند دلالات بعض الأرقام، متسائلاً: هل يجوز أن يتراوح التعويض التقاعدي لعدد من الضباط وفق مندرجات «السلسلة» بين 700 مليون ومليار دولار، وهل يصح أن يصل راتب بعض الأساتذة إلى قرابة ثلاثة آلاف دولار؟
ويتخوف الوزير من أن تؤدي مفاعيل «السلسلة» إلى تصغير حجم الاقتصاد بدل تكبيره، لافتاً الانتباه إلى أن الضرائب المخصصة لتمويلها ستتسبب في انكماش اقتصادي، والانكماش سيفضي إلى تراجع في الاستثمارات ومؤشرات السوق، الامر الذي سينعكس تقلصاً في موارد الخزينة. ويتابع: «لقد ضيقوا رقعة الكعكة بدل توسيعها، مع إضافة جديدة هي أن المسستفيدين منها قد ازدادوا».
ويحذر الوزير من احتمال أن تعلو قريباً صرخة العاملين في القطاع الخاص الذين لم تشملهم عائدات «السلسلة» لكنهم سيتولون في الوقت ذاته تسديد جزء كبير من أعبائها إضافة إلى تحمل وزر تبعاتها، وليس الارتفاع الكبير المتوقع في أقساط المدارس سوى دفعة على الحساب.
وفي حين ينبه الوزير إلى أن كلفة فوائد الدين العام تبلغ سنوياً سبعة مليارات دولار، يلاحظ أن أي جهد لا يُبذل من أجل البحث في كيفية تخفيض هذه الكلفة ولو بمعدل مليار واحد، سيكون كافيا لتمويل «السلسلة»، علما أن هناك خيارات أخرى أيضاً لتأمين مواردها غير فرض الضرائب، من قبيل ضبط الأمور في الجمارك والكهرباء، الأمر الذي سيسمح بتحقيق وفر مالي كبير.
ويتوقف الوزير عند تجربته مع رئيس الحكومة سعد الحريري، قائلاً: للأمانة، الحريري رجل صادق وقلبه طيب، إلا أن همه ينحصر في كيفية ضمان بقائه في السلطة ومعالجة ضائقته المادية الخانقة، وبالتالي فهو مستعد لإبداء أقصى المرونة والواقعية من أجل أن يحقق هذين الهدفين، مفترضاً أن الفوز في الانتخابات النيابية المقبلة شرط أساسي لتثبيت موقعه في رئاسة الحكومة. ولذلك لم يكن وارداً لديه أن يعطل إقرار «السلسلة» حتى لا يخسر المزيد من الشعبية، وهو الذي يسعى إلى تجميع أصوات من هنا وهناك.
Leave a Reply