في إحدى بلدات جنوب لبنان، طبيب بيطري «فلتة زمانه» أعجبتني حكايته. وعندما تقرأها جنابك أيها القاريء سوف تعجب به أيضاً وتطالب المختبرات باستنساخه، لإنتاج مرشحين مثله يتحلون بالأمانة والشجاعة والصدق.
وقد قام الرجل بترشيح نفسه في الانتخابات البرلمانية قبل مدة، وهو طبيب بيطري متخصص في علاج الحمير وفي نفس الوقت عضو في «نقابة الصحافة اللبنانية». ولتسجيل ترشيحه كان عليه أن يسدد مبلغ 50 ألف ليرة لبنانية فحملها في كيس كبير كـ«فكة»، يعني آلافاً من القطع المعدنية. وعندما سألوه عن سبب فعله ذاك، أجاب: أريد أن أرهق الموظف، فهو يبقى عاطلاً عن العمل طوال أربع سنوات (وهي الفترة بين كل انتخابات نيابية) ولا بأس لو جعلته يشتغل أسبوعاً في عدِّها!
أليس هذا كلام شخص واسع الوعي؟
ألا ترغبون بتعميم هذه الفكرة على معظم الموظفين التنابلة في الوطن العربي الأكبر. الحقيقة أن الدكتور البيطري لم يكن يملك أية فرصة للفوز في الانتخابات لأنه أنشأ مقراً انتخابياً لا يقدم فيه سوى الكلام، لا شاي، لا قهوة ولا مآدب عامرة مثل التي يقيمها المرشحون الآخرون من رتبة «الخمس نجوم»، ولا قاعات واسعة فيها مقاعد تتسع للمئات، مكيفة الهواء ومزودة بكل وسائل التكنولوجيا، وتتوفر فيها وجبات دسمة على مدار اليوم للجماهير.
ولمَّا قيل للطبيب العبقري إن غياب تلك الحوافز في مقرِّه الإنتخابي سيطفِّش الناخبين، أوضح بأنه قصد إقامة مقرِّه قرب مقر مرشح آخر سوبر شبعان، وأن بإمكان روَّاد مقره الاستماع إلى خطاباته ثم الذهاب إلى مقر منافسه لتناول ما لذ وطاب في مواعيد الوجبات.
كانت أحلام الطبيب كبيرة جداً، فقد كان يخطط لدخول البرلمان وأن يصبح وزيراً للمالية، وأعلن بصراحة أن أول عمل سيقوم به فور تسلمه أعباء الوزارة هو إفراغ محتويات خزائنها في جيبه. بالذمة، أليس هذا الرجل جدير بالإعجاب لأمانته، فهو أمين وصريح ويعلن عن نواياه بوضوح بدون مواربة، ولا يمارس إطعام من سينتخبه «جوز فارغ» ولا يختبئ كالآخرين خلف العبارة الممجوجة التي تقول «الوزارة تكليف لا تشريف»!
ولأن المثل يقول «عدو عاقل خيرٌ من صديق جاهل». لذلك فالحرامي المكشوف أقلُّ ضرراً من الحرامي المستتر الذي يتفلسف ويدعي بأنه نذر نفسه لخدمة المواطنين! ولأن الدكتور البيطري رجل عملي فقد قال إنه لا يمانع من أن يصبح وزيراً للتربية والتعليم ليقوم بإعدام جميع الكتب المدرسيَّة وإغلاق المدارس والجامعات لعدة سنوات حتى ينسى الطلاب جميع الخرافات والخزعبلات التي درسوها ويبدأوان «فرش» Fresh من أول وجديد.
الكثير من أبناء منطقته أعلنوا تأييدهم له رغم علمهم بأنه لن يفوز، وطلبوا منه معالجتهم بحكم تخصصه قائلين له إنهم على كل حال –حالهم حال معظم الأعراب– من سلالة لم تتعلم ولن تتعلم بالتكرار وتعيش في زريبة ضخمة تحمل اسم دلع وهو «الوطن»، تماماً كما قال الشاعر أحمد مطر: «إن الزعماء العرب يعرفون «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته» بمعنى أنهم هم الرعاة والشعب بهائم.
Leave a Reply