ربع قرن، ونبيه برّي رئيساً لمجلس النواب، هو أنتخب في 2 تشرين الأول 1992، ومنذ ذلك التاريخ في المنصب الثاني، رئيساً للسلطة التشريعية، حيث لم يتقدم منافس شيعي له، بالرغم من محاولات إيجاد البديل عنه، إلا أن الحظ لم يحالف مَن شاء أن يترشح، ولو لإضفاء صفة الديمقراطية على المنافسة لتبوّء الموقع الذي حافظ عليه الرئيس برّي بجدارته ومهارته السياسية وحنكته التي مكنته من أن يلتصق به.
مكان الحسيني
وصل برّي إلى رئاسة مجلس النواب، مكان الرئيس حسين الحسيني الذي أنهى حقبة الرئيس الأسبق كامل الأسعد، التي فيها حصل انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية في ظل الاحتلال الإسرائيلي الذي تعاون معه، كما سهّل الأسعد حصول اتفاق 17 أيار بين لبنان وإسرائيل، والذي أسقطته القوى الوطنية لاحقاً، ومعه كل رموز «العصر الإسرائيلي»، وبدأ زمن المقاومة الذي أطلقه حركة «أمل» مع الإمام السيد موسى الصدر، ثمّ مع الرئيس برّي الذي خلف الحسيني أيضاً في رئاستها.
برّي سياسياً
اليوم، يكون الرئيس برّي قد أمضى 25 سنة في رئاسة مجلس النواب، ونحو أربعة عقود في رئاسة حركة «أمل» وبات اسمه مرتبطاً بالسياسة اللبنانية التي دخل عالمها منذ كان طالباً بكلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، وبدأ يميل إلى الفكر القومي العربي الذي مثله حزب البعث العربي الاشتراكي الذي وصل إلى الحكم في سوريا والعراق، لكن سطوع نجم الإمام السيد موسى الصدر في منتصف الستينات من القرن الماضي، وحمله خطاباً سياسياً ضد الإقطاع السياسي الذي كانت تمثّله عائلات منها آل الأسعد والخليل والزين وعسيران، ودعوته إلى رفع الحرمان عن أهل الجنوب خصوصاً والمناطق اللبنانية عموماً، وهو ما أوقع صداماً سياسياً بينه وبين هذا الإقطاع الذي لم يرَ الصدر أنه قدم إنماءً، وأنصف المزارعين والفلاحين والعمال، حيث لقيت خطاباته ومواقفه تأييداً شعبياً ليس في طائفته فقط، بل على المستوى اللبناني، فأسس «حركة المحرومين»، وكان في عدادها البطريرك الماروني خريش وشخصيات أخرى.
مع الإمام الصدر
في ظل صعود «حركة المحرومين» التحق الرئيس برّي فيها، وتقرّب من الإمام الصدر الذي جذب آلاف الشباب الشيعة الذين كانوا بدأوا ينتمون إلى أحزاب يسارية وتقدمية من الشيوعي إلى «منظمة العمل الشيوعي»، وحزب «البعث» بشقيه السوري والعراقي، والحزب السوري القومي الإجتماعي، والتيار الناصري… وهكذا بدأ مشوار برّي إلى جانب الإمام الصدر، وبات يمثله في «لقاء الأحزاب الوطنية» ويكلّفه بمهام سياسية، وهو الشاب المحامي الذي بدأ تدرجه في مكتب المحامي عبدالله لحود، ويتحدّر من بلدة تبنين الجنوبية حيث سافر أبوه إلى دولة سيراليون في أفريقيا في ثلاثينات القرن الماضي شأنه بذلك شأن العديد من اللبنانيين والكثير من أبناء الجنوب بحثاً عن لقمة العيش، حيث وُلد نبيه برّي في المغترب الأفريقي، ليعود طفلاً إلى لبنان لتلقي العلم، حيث لم يكن أحد يتوقع لهذا الشاب الذي مازال يتكلّم لغة أبناء الجنوب أن يصل ليصبح زعيماً لطائفته الشيعية، لا ينافسه منافس سوى «حزب الله» الذي نشأ بعد «الثورة الإسلامية» في إيران واستقطب شباباً من حركة «أمل» ومنهم السيد حسن نصرالله الذي كان مسؤولاً في الحركة، إلى آخرين، حيث خاض الطرفان صراعاً دموياً على مَن يمسك القرار داخل الطائفة الشيعية، لينتهي الأمر، بإنهاء النزاع بينهما على تفاهم ضمنته سوريا وإيران، بأن حظي «حزب الله» حرية التحرك في الجنوب كمقاومة، ليبدأ ما سمي بـ«الثنائية الشيعية» التي نظّمت الخلاف والتعايش بين التنظيمين.
الحضور الشيعي في النظام
فمع استلام برّي لرئاسة حركة «أمل»، واجه مشاكل وصدامات ومعارك عدة، مع القوى الوطنية اللبنانية والفلسطينية التي كانت تسيطر على الجنوب، ولم ينحسر نفوذها إلا بعد الاجتياح الإسرائيلي للجنوب عام 1982 الذي قاومته «أفواج المقاومة اللبنانية» (أمل)، التي أسسها الإمام الصدر قبل اندلاع الحرب الأهلية للدفاع عن الجنوب بوجه الإعتداءات الإسرائيلية، ولعبت دوراً أساسياً في القيام بعمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب والبقاع الغربي وراشيا، ووضعها رقماً صعباً في المعادلة الداخلية، لاسيما بعد 6 شباط 1984، حيث أنهت «أمل» مع القوى الوطنية إفرازات الغزو الصهيوني للبنان، وفرض الرئيس برّي الحضور الشيعي كمكون أساسي في النظام السياسي، فكان مفاوضاً في أثناء جولات المبعوث الأميركي فيليب حبيب، ثمّ في طاولتي الحوار في جنيف ولوزان عامي 1983 و1984، حيث شارك ولعب دوره في «الاتفاق الثلاثي» مع «الحزب التقدمي الاشتراكي» و«القوات اللبنانية» برعاية سوريا لإنهاء الحرب في لبنان.
رئيساً لمجلس النواب
انتهت الحرب بقرار دولي–إقليمي، ووقّع النواب، في الطائف بالسعودية على إتفاق يضع لبنان على طريق السلام، ويحقق إصلاحات في النظام السياسي، وجرت أول انتخابات نيابية في صيف 1992، لينتخب على أثرها برّي رئيساً لمجلس النواب، وأزيح عن هذا المنصب الرئيس الحسيني الذي يوصف بأنه «أب الطائف» و«مهندسه»، وتقع عليه مهمة تطبيقه، إلا أن القرار السوري أخرجه من رئاسة مجلس النواب، ليأتي ببري حليف سوريا مكانه، والذي وقف معها بأشد الظروف وأصعبها، ضد مَن حاول أن يتآمر عليها أو يسقط دورها في لبنان، لاسيما حركة «فتح» التي حاولت العودة إلى الساحة اللبنانية في الثمانينات من خلال بعض الأحزاب ومنها «الحزب التقدمي الاشتراكي» و«الشيوعي» و«منظمة العمل الشيوعي» و«المرابطون»، لكن حركة «أمل» تصدّت لهم ومنعت عودة ياسر عرفات إلى بيروت، التي شهدت «حروب الأخوة»، وكان أشدّها «حرب العلم» بين «أمل» و«الاشتراكي»، مما سرّع بعودة القوات السورية إلى بيروت للإمساك بالأمن فيها، بعد أن عاث فيها مسلحو الأحزاب قتالاً وخطفاً وسرقات وفرض خوات.
رجل الدولة
مع كل المعارك السياسية والعسكرية التي خاضها برّي مع الخصوم والحلفاء، فإنه برز دوره كرجل دولة في رئاسته لمجلس النواب وإدارته لجلساته التي كان بارعاً في تدوير الزوايا، إذ نجح في إصدار قوانين عدة، التي لم تصدر لها مراسيم تنظيمية أو لم تنفذ، وهذا ما واجهه الرئيس برّي مع العديد من الحكومات مما دفعه إلى تشكيل لجنة نيابية تتابع تطبيق القوانين وهي هامة جداً، ومنها ما يتعلق بقضايا المواطنين الاجتماعية، كما في تعزيز المؤسسات، إلا أن الرئيس برّي لم ينجح في أن يضع بند «إلغاء الطائفية»، على طاولة البحث بتشكيل الهيئة الوطنية، كما أنه لم يتمكن من تحقيق الإنماء المتوازن عبر تحريك قوانين، سوى أنه أنشأ أربع محافظات فيما يخص اللامركزية الإدارية، وهي عكار وبعلبك–الهرمل والنبطية وأخيراً كسروان–جبيل.
الترويكا
وفي لعبة السلطة، وتركيبة النظام السياسي الطائفية، دخل الرئيس برّي شريكاً في السلطة التنفيذية، ليس من باب الحكومة ومشاركة حركة «أمل» فيها، بل من بوابة «إدارة الدولة»، حيث كان يجلس مع رئيسي الجمهورية والحكومة لتقاسم الحصص في المؤسسات، وظهر ذلك في عهد الرئيس الياس الهراوي، وترؤس رفيق الحريري للحكومة، وكان كل منهم جديداً في السلطة بعد انتهاء الحرب، فأطلق الرئيس برّي مقولته الشهيرة «عالسكين يا بطيخ» و«مَن يحضر السوق يشتري ويبيع»، وكي يحصّل له وظائف في الدولة، وقد نال الحصة الشيعية كلها، ولم ينافسه عليها «حزب الله» الذي كرّس جهوده للمقاومة، وشارك في مجلس النواب دون الحكومة حتى العام 2005، إلا أن ما كان في عهد الرئيس الهراوي تغيّر في عهد الرئيس إميل لحود وسقطت «الترويكا»، وبات ثمة آلية تحفظ حقوق الطوائف والمذاهب من خلال أحزابها في السلطة.
العلاقة مع رؤساء الجمهورية
مرّت علاقة الرئيس برّي مع رؤساء الجمهورية بصعود وهبوط، وهو لم يكن من صنّاع رئيس الجمهورية وإن كان له تأثيره في هذا الاستحقاق، فهو وقف ضد التمديد للرئيس الهراوي، وكان مع وصول قائد الجيش العماد إميل لحود إلى رئاسة الجمهورية، أو الوزير والنائب السابق جان عبيد الذي كان مرشحاً ثابتاً عنده، فلم يتمكن من وقف التمديد للهراوي الذي كانت وراءه «ترويكا» سورية تضم عبدالحليم خدام وحكمت الشهابي وغازي كنعان بالاتفاق مع رفيق الحريري والنائب وليد جنبلاط، وأدّى ذلك إلى توتر العلاقات بين «الثلاثي السوري» ورئيس مجلس النواب الذي لم يكن بعيداً عنه.
وبعد انتخاب الرئيس لحود رئيساً للجمهورية، بدأت العلاقة جيدة، لتنتهي إلى مقاطعة برّي القصر الجمهوري بسبب الخلاف بين الرجلين حول إدارة الدولة التي كان لكل منهما نظرته المختلفة إلى هذا الموضوع.
ولكن العلاقة كانت طبيعية بين برّي والرئيس ميشال سليمان «غير الصِدامي» والذي شهدت البلاد في عهده انحداراً أمنياً واقتصادياً.
أما اليوم، فلا توجد كيمياء بين الرئيس ميشال عون والرئيس برّي الذي لم ينتخبه رئيساً للجمهورية وكان مرشحه النائب سليمان فرنجية. لكن وبتدخل أو تيمن من «حزب الله»، يحاول الرجلان أن يتساكنا، لأن لكل منهما عقليته ورأيه في معالجة الأزمات الداخلية، إلا أن التواصل بينهما لم ينقطع، وتجمعهما قواسم مشتركة استراتيجية في مقدمتها العداء لإسرائيل ومقاومتها، كما التقيا على النسبية في قانون الانتخاب.
ويسجّل للرئيس برّي خلال ربع قرن من رئاسته لمجلس النواب كما في العقود الأربعة من رئاسته لحركة «أمل» أنه رجل الحوار بامتياز، وقد ترأس طاولات حوار لحل أزمات، وهو بهذا الأسلوب المنفتح كسب ود الجميع واحترامهم كما ثقتهم.
Leave a Reply