تحول احتجاز رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري في السعودية إلى فضيحة العصر. لم يحصل في أي مكان آخر في العالم سيناريو مشابه. رئيس حكومة لدولة مستقلة يستقيل بالإكراه في عاصمة دولة أخرى ويُمنع من العودة إلى وطنه. بهذا المعنى، فإن ما حصل مع الحريري انطوى على إهانة متعددة الاتجاهات أصابت في وقت واحد كرامة الحريري وهيبة رئاسة الحكومة ومعنويات الطائفة السنية وكبرياء لبنان.
وقد نجح «حزب الله» و«التيار الوطني الحر»، وهما المستهدفان الأساسيان مما جرى، في عدم الانزلاق إلى الفخ السعودي، من خلال تجنب الخوض في الاسباب التي عرضها الحريري في بيان الاستقالة المفروضة، باعتباره مسلوب الإرادة والقرار، والتركيز بدل ذلك على واقعة وضعه فيما يشبه الإقامة الجبرية تحت المراقبة السعودية المباشرة، وصولاً إلى التعامل مع الاستقالة على أساس أنها غير دستورية وبالتالي غير سارية المفعول إلى حين عودة الحريري، والتأكد من حقيقة موقفه.
وبينما كان البعض يفترض أن شرارة استقالة الحريري ستشعل براميل البارود في لبنان، بدا أن غالبية الاطراف الداخلية باستثناء قلة من أصوات النشاز، تهيبت الموقف المستجد وتعاملت معه بأعلى درجات المسؤولية، خصوصاً «الحزب» و«التيار» اللذين لم يتخليا عن الحريري والتسوية معه، في انتظار «تحريره»، ليبنى على الشيء مقتضاه.
وكانت لافتة للانتباه زيارة وزير الخارجية جبران باسيل إلى بيت الوسط حيث التقى كلا من النائب بهية الحريري ونادر الحريري، مؤكداً الوقوف إلى جانبهما في هذه المحنة الوطنية.
أما الرئيس نبيه بري، فقد سعى خلال لقائه مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في شرم الشيخ إلى اسستشراف إمكان أن توظف مصر مكانتها لدى السعودية من أجل تحصين الاستقرار اللبناني وحصر تداعيات قنبلة الاستقالة.
وأكد بري لـ«صدى الوطن» أنه لا يعترف باستقالة الحريري حتى الآن، لأنها تمت خارج لبنان وفي ظروف غير طبيعية، مؤكداً أن الأعراف والأصول تقضي بأن يقدمها في لبنان، وعندها يمكن البدء في مناقشة الخيارات الأخرى وإجراء الاستشارات الملزمة لتكليف رئيس حكومة جديد.
ويشدد بري على أن الوحدة الوطنية تشكل صمام الأمان الأساسي في مواجهة الأزمة الحالية، قائلاً: نحن أقوى من أميركا إذا كنا متفقين وأضعف من بيت العنكبوت إذا كنا متفرقين.
وخلافاً لما تم «دسه» في بيان الاستقالة حول تهديد أمني يحوم حول الحريري، أثبتت تقارير الجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العام أنه لم يكن هناك أي مخطط لاغتيال الرجل في لبنان، ليتبين في المقابل أن رئيس «تيار المستقبل» تعرض لنوع من أنواع «الاغتيال السياسي» في الرياض، بواسطة «عبوة ملكية» في إطار الصراعات السعودية على العرش.
لم يُسمح للرجل حتى أن يختار شكل الانسحاب أو الانتحار. كان أمامه فقط أن يتجرع عبر الشاشة السم الذي أُعد له، وأن يستسلم له وهو يسري في جسمه السياسي.
لقد قست المملكة على الحريري، إلى أن استحال «رماداً سياسياً» في لحظة. فمن جهة دفعته الرياض إلى الاستقالة بالتزامن مع التوقيفات التي شملت بعض أصدقائه في المملكة، بحيث ظهر، في الشكل والتوقيت، كأنه جزء من «لائحة المطلوبين» وإن اختلفت نوعية «العقوبة» الصادرة بحقه.
ومن جهة أخرى استخدمت الرياض الاستقالة لمحاولة قلب الطاولة على إيران و«حزب الله» في لبنان والتأكيد أنها لا تزال لاعباً أساسياً ومتمكناً في ساحات المواجهة.
والى حين اتضاح مسار الأمور والوجهة التي ستسلكها الأزمة في المرحلة المقبلة، هناك في الوسط السياسي من يتوقع أن يعود الحريري إلى لبنان قريباً لتثبيت استقالته، على قاعدة إفراج مشروط عنه من قبل السعودية. ويرجح أصحاب هذا الرأي أن تفضي الاستشارات النيابية الملزمة لاحقاً إلى إعادة تسمية الحريري لتشكيل الحكومة، لكنها تستبعد أن يتمكن من ذلك، في ظل الضغط السعودي الرافض لأي وجود لـ«حزب الله» في مجلس الوزراء، ما يعني أن الحكومة الحالية ستتولى تصريف الأعمال حتى أيار (مايو) المقبل، موعد إجراء الانتخابات النيابية.
ويستبعد هؤلاء إمكان تأليف حكومة تكنوقراط من غير الحزبيين ومن غير المرشحين إلى الانتخابات، لأن «حزب الله» لن يقبل بحكومة كهذه، من شأنها أن توحي بأن السعوديين تمكنوا من تحقيق نصر سياسي، عبر إقصاء الحزب عن الحكومة.
لكن أكثر ما يخشاه القلقون هو أن تعمم السعودية نموذج حصار قطر على لبنان، بحيث تقطع شرايينه الاقتصادية، مع فارق أساسي يكمن في أن قطر تستطيع التحمل قياساً إلى قدراتها الاقتصادية، في حين أن التداعيات على لبنان ستكون أقسى.
Leave a Reply