حكم الصِبية يحرج السعودية .. ويهدّد موقعها الإقليمي والدولي
هي مملكة الخيبة والهزائم .. لقد خسرت السعودية الحرب على لبنان قبل أن تبدأها. التسوية السياسية التي يتوقع أن تقود رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري من محبسه السعودي إلى الحاضنة الفرنسية، قد تكون مؤشراً على إجهاض أحدث جولة من الحروب الخاسرة التي يخوضها محمد بن سلمان، بحثاً عن زعامة إقليمية مفقودة.
تلك الخيبة ليست بجديدة على الأمير الشاب الذي يجهد والده ليل نهار، لتأمين حيثيات تصعيده إلى العرش، فالمحاولات الفاشلة بدأت في الواقع منذ ترقيته إلى منصب ولي ولي العهد، مع تسلم الملك سلمان حكم المملكة النفطية خلفاً لأخيه الملك عبدالله.
ومن أجل محمد بن سلمان، خيضت حرب اليمن، التي تحوّلت من «عاصفة حزم» إلى «عاصفة وهم»، والتي لا يحتاج أحد اليوم إلى التأكد من فشلها في تحقيق أهدافها، عدا تدمير ذلك البلد المجاور، وتجويع شعبه ونشر الكوليرا بين أطفاله.
لعلّ الجنون السعودي اليوم يعود بالدرجة الأولى إلى إخفاقات حرب اليمن التي لا يتوانى الحوثيون عن تذكير آل سعود بها، من خلال رسائل صاروخية عابرة للحدود، كان آخرها ذلك الصاروخ الطويل المدى الذي يحمل تسمية «بركان»، والذي بلغ شمال شرق الرياض بعد ساعات على افتعال الأزمة اللبنانية التي كان المأمول منها حرباً على «حزب الله»… وإيران.
وفي حقيقة الأمر، لا يمكن فصل سلسلة الإخفاقات المتكررة لِبن سلمان، وردود الأفعال الدولية على الدور التخريبي لمملكة آل سعود على امتداد الشرق الأوسط، فثمة دوائر دبلوماسية واستخباراتية عدّة، لا سيما في الغرب، تنبّهت إلى ذلك منذ مدة، من بينها تقرير للاستخبارات الخارجية الألمانية، يعود إلى أواخر العام 2015، وقد كُشف النقاب عنه قبل أيام، وهو يشير بوضوح، وبنبرة غير دبلوماسية، إلى أن «القوة الإقليمية السنية تتمزق بين تغيير نموذج السياسة الخارجية وتوطيد السياسات المحلية».
هذا التقرير، تضمن توقعاً مبكراً، بأن «الحذر الدبلوماسي الحالي الذي يتبعه كبار أفراد العائلة المالكة السعودية (والكلام هنا في العام 2015)، ستحل مكانه سياسة تدخل عدائية»، ركيزتها سعي الملك وولي عهده إلى أن تكون السعودية «قائدة للعالم العربي»، وأن تكون سياستها الخارجية «مبنية على ركيزة عسكرية قوية».
شاب يريد إثبات نفسه
في ظل تلك التحولات، كان التقرير الاستخباراتي الألماني واضحاً في تحذيره من أن «وضع السلطات في يد الأمير الشاب، يحمل مخاطر مرتبطة باحتمال سعيه إلى إثبات نفسه بانتظار خلافة والده»، وأن «العلاقات مع الدول الصديقة للسعودية وجيرانها في الشرق الأوسط، يمكن أن تتأثر بنهج بن سلمان».
ضمن هذا السياق، يمكن فهم كل التحركات السعودية، في الداخل كما في الخارج، منذ أن وضع محمد بن سلمان قدمه على الطريق السريع إلى عرش آل سعود.
ويبدو واضحاً أن الإخفاقات التي ظلت تلاحقه طوال السنتين الماضيتين، قد دفعته إلى خطوات هستيرية، بدأت مع إزاحة ابن عمه، ولي العهد السابق محمد بن نايف، واستكملت مع احتجاز سعد الحريري –وقبله الرئيس اليمني المتراجع عن استقالته عبد ربه منصور هادي– وعدد كبير من الأمراء ورجال الأعمال من ذوي المناصب الحساسة في المملكة النفطية.
ولا يمكن فصل التصعيد السعودي ضد قطر، والذي قاد إلى عزلة خليجية (انضمت إليها مصر ودول أخرى)، وكذلك التدرج المضطرد في التصعيد ضد إيران (والذي بلغ حد تهديد محمد بن سلمان إلى نقله داخل الجمهورية الاسلامية)، عن ذلك التخبط الهستيري، الذي بات سمة من سمات العهد المنتظر لمحمد بن سلمان.
كل ما سبق، ربما يفسر المواقف التي باتت تصدر من كبار المسؤولين الغربيين، بشأن السعودية، والمتضمنة انتقادات صريحة نادرة لمملكة آل سعود، على خلفية التهور الذي بات يثير القلق من الاستقرار الداخلي في السعودية، ويهدد بتجاوز غير مسموح للخطوط الحمراء في الشرق الأوسط.
حكم الصبية
على المستوى الداخلي، لعلّ حلفاء السعودية أنفسهم نظروا بعين القلق إلى الخطوات الأخيرة التي انتهجها محمد بن سلمان، والتي يرى كثيرون أنها تشكل بداية النهاية لمملكة آل سعود، فأكثر من أي وقت مضى تحوّلت حملة الاعتقالات والتوقيفات إلى عاصفة سياسية مدمرة.
ومما لا شك فيه أن محمد بن سلمان راكم من السلطة خلال العامين الماضيين أكثر مما فعل أي من أفراد آل سعود. ظاهرياً يبدو محمد بن سلمان متجهاً نحو تجاهل البروتوكول الخاص بانتقال العرش، لكن تجدر الإشارة إلى أنه لم يسبق لابن سلمان أن تبوأ منصباً هاماً في الحكومة السعودية من قبل، كما أنه لا يملك الخبرة التي تخوله القيادة.
يضاف إلى ذلك، أن سلسلة التعيينات التي أجراها محمد بن سلمان، منذ بداية العام الحالي، والتي شملت مجموعة من الأمراء الشباب في أواخر العشرينيات أو الثلاثينيات من العمر، تم تنصيبهم في مواقع قيادة متعددة، على نحو يثير التساؤلات بشأن قدرتهم على التحكم بالتعقيدات الداخلية والاقليمية، أمثال نائب أمير منطقة الجوف عبد العزيز بن فهد (27 عاماً)، ووزير الداخلية عبد العزيز بن سعود (30 عاماً) الذي حل مكان عمّه محمد بن نايف، ونائب رئيس الهيئة العامة للرياضة عبد العزيز بن تركي (34 عاماً)، ونائب أمير المنطقة الشرقية أحمد بن فهد (31 عاماً)، والسفير السعودي لدى واشنطن خالد بن سلمان (29 عاماً)، وهو شقيق محمد بن سلمان، علاوة على عادل الجبير وثامر السبهان، وغيرهم ممن يكرسون توصيف «حكم الصبية».
والمثير للانتباه في قائمة القيادات الجديدة أنها أنها لا تشمل أياً من أبناء أو أحفاد الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز، وأن فيها حفيد واحد فقط للملك فهد، كما أنها لا تتضمن أي أقارب مباشرين للأمير أحمد بن عبد العزيز، وهو أحد السديريين السبعة، الذي صوّت ضد تعيين محمد بن سلمان ولياً للعهد في هيئة البيعة في حزيران الماضي.
الأخطر من ذلك، ان حركة التصفيات السياسية الأخيرة، شملت إزاحة شخصيتين حساستين من طريق محمد بن سلمان، وكان من الممكن أن يشكلا تهديداً على صعوده إلى العرش، وهما الأمير منصور بن مقرن، الذي توفي في حادث تحطم مروحية قرب اليمن، والأمير متعب بن عبدالله، الذي تم عزله كرئيس للحرس الوطني السعودي.
وفي الواقع، فإن كثراً من آل سعود كانوا ينظرون إلى منصور بن مقرن باعتباره ذلك الأمير الشاب، القادر على القيام بدور إصلاحي، بعدما بدأ، بالفعل، يظهر بعض المهارات في منصبه كنائب حاكم لمقاطعة عسير الجنوبية المضطربة بشكل متزايد، علاوة على أن ثمة غضباً ربما كان يعتري صدره، جراء عزل والده الأمير مقرن بن عبد العزيز، الذي عين في منصب ولي ولي العهد، في عهد الملك عبدالله، ثم صار ولياً للعهد، بعد وفاة الأخير، ووصول سلمان إلى الحكم، قبل أن يتم عزله في نيسان العام 2015، لصالح محمد بن نايف، الذي أطاحه محمد بن سلمان في وقت لاحق.
ولكن أكثر ما يثير القلق على الاستقرار في أوساط آل سعود، هو إزاحة الأمير متعب بن عبدالله من منصبه كرئيس للحرس الوطني. ومعروف أن الأمير متعب ابن الملك السابق، قد قاد الحرس الوطني منذ العام 2010، بتعيين مباشر من والده، علماً بأنّ الحرس الوطني هو القوة القتالية الرئيسية في المملكة العربية السعودية، وهو ينافس القوات البرية الملكية السعودية المجهزة تجهيزاً جيداً ولكنها تعاني من سوء القيادة.
تخلخل الركائز
للمملكة السعودية جيشان، الأول هو الحرس الوطني المكرّس لحماية آل سعود، والثاني هو القوات البرية الملكية التي تعمل كقوة قتالية أكثر تقليدية. وكان الحرس الوطني، فترة طويلة، القوة الضاربة في أيدي فرع شمّر من آل سعود، فقد قاده الملك الراحل عبدالله لمدة خمسة عقود، وهو فريد من نوعه، لكونه يعتمد على جذور القبائل في المملكة العربية السعودية، وبذلك يشكل حلقة وصل حيوية بين العائلة المالكة والدعم القبلي الذي اعتمد عليه آل سعود، خلال صعودهم إلى السلطة، في عشرينيات القرن المنصرم.
انطلاقاً من ذلك، ربما يكون قرار محمد بن سلمان بإقالة متعب بن عبدالله خطأً جسيماً، أو ربما قاتلاً، لا سيما أن ولي العهد الشاب لا يحظى بشعبية كبيرة في صفوف قطاعات واسعة في القوات البرية الملكية السعودية، وذلك بسبب حربه الكارثية والمتهورة في اليمن، التي تسير من فشل إلى فشل، علاوة على ما فرضته من ضغوط هائلة على القوات المسلحة.
وعلاوة على ما سبق، فإنّ ثمة عدم رضى، في صفوف الحرس القديم، تجاه محمد بن سلمان، الذي يوصف بالأمير المغرور، وهو ما يمكن أن يتجلى بسهولة في الأوساط القبلية، التي تشكل ركيزة الحرس الوطني، الذي يبدي ولاءً كبيراً لفرع شمر من عائلة آل سعود.
يضاف إلى أن ذلك، أن الخلل الداخلي، والذي يأتي بالتوازي مع أزمات اقتصادية ومالية متلاحقة، وفي ظل الشكوك التي تحوم حول برنامج محمد بن سلمان للإصلاح الاقتصادي، والمعروف باسم «رؤية 2030»، يجعل الجبهة الداخلية السعودية هشة، لفتح جبهات خارجية، وهو ما تبدى على امتداد رقعة الصراع بين السعودية وإيران، ابتداءً من اليمن وسوريا، وصولاً إلى لبنان، ما يثير قلقاً إضافياً من أن هستيريا الأمير الطائش قد تشعل الشرق الأوسط برمّته، وهو ما لا يمكن لأية جهة دولية مؤثرة، حتى الولايات المتحدة، حليفة السعودية، تحمّله.
لعلّ أفضل توصيف لمحمد بن سلمان هو ما ورد في موقع «انترسبت»، قبل أيام، حين أشارت إلى أن «محمد بن سلمان يبدو نقيض ميداس»، الإله الإغريقي الذي يحوّل كل ما يلمسه إلى ذهب، قبل أن تزيد أن «كل ما يلمسه الأمير الشاب يتحوّل إلى رماد».
Leave a Reply