رُبطت أزمة استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري بأزمات المنطقة، حتى بات انسحاب «حزب الله» من الساحات الإقليمية من سوريا إلى العراق فاليمن والبحرين، شرطاً لعودة رئيس الوزراء اللبناني عن استقالته، باعتبار أن الحزب هو أحد أذرع إيران و«مشروعها الفارسي» في المنطقة.
قطع أيادٍ
بات على الحريري إذا قدر له أن يستمر في دوره السياسي، أن يمنع التمدد الإيراني و«يقطع أيادي إيران» التي «ما إن تدخل بلداً حتى تخرّبها»، كما ورد في بيان استقالة الحريري، الذي لم يأت مقنعاً لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون ولا رئيس مجلس النواب نبيه برّي ولا «تيار المستقبل» وكتلته النيابية ولا الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله ولا مفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان، وصولاً إلى قيادات سياسية أخرى، طالبت تباعاً بعودة الحريري إلى لبنان لمعرفة الأسباب الحقيقية لاستقالته التي حصلت دون مقدمات منطقية، فاعتُبرت أنها تمّت تحت الضغط والإكراه السعودي، وبالتالي هي ليست دستورية وغير مقبولة، وقد أجمعت مختلف التقارير الدبلوماسية والإعلامية على أن استقالة الحريري حصلت في وضع غير طبيعي، وأكدت مواقف رسمية عدة بأنه محتجز أو قيد الإقامة الجبرية، وذلك رغم الظهورات المتعددة للحريري الذي حاولت الرياض جاهدة للرد على الاتهامات المتصاعدة للمملكة باحتجازه انتهاكاً لشرعة الأمم المتحدة واتفاقية فيينا التي تمنح رؤساء الدول حصانة تامة. فلم تكن لقاءاته مع العاهل السعودي الملك سلمان، وزيارته إلى أبوظبي ولقائه مع ولي العهد محمد بن زايد، ولا المقابلة التلفزيونية على شاشة «المستقبل»، كافية لتؤكد بأن الحريري حر ويستطيع التحرك بعد قرابة أسبوعين على استقالته المفاجئة.
الحريري الذي أكد أنه سيعود قريباً إلى لبنان، بات عليه أن يكون رأس حربة الرياض ضد تمدد ونفوذ طهران و«حزب الله» في لبنان والمنطقة، في حال رغب بالاستمرار في موقعه كزعيم للسنة في لبنان. ولكن هل يمكن للحريري القيام بهذا الدور؟
التصدي للمدّ الفارسي
منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران أواخر السبعينات جرت محاولات مستمرة للتصدي للنظام الجديد تحت مسميات مختلفة، من التصدي للمد «الفارسي» و«الشيعي»، ومنع «تصدير الثورة الإسلامية» إلى البلدان العربية حيث تتركز الأقليات الشيعية.
سعت دول الخليج وتحديداً السعودية إلى صد إيران الجديدة بعد أشهر من ولادتها، فكانت الحرب العراقية–الإيرانية التي اندلعت سنة 1980 بعد عام من انتصار «الثورة الإسلامية»، ودامت نحو 8 سنوات، استُنزفت خلالها طاقات البلدين.
وفي الوقت الذي كان النظام العراقي يخوض حربه ضد طهران، تحت شعار قومي عربي بمنع السيطرة الفارسية، فإن «الحرس الثوري الإيراني»، بدأ بإنشاء فروع «للثورة الإسلامية»، التي تأثّر بها في لبنان أشخاص كانوا في «حزب الدعوة» أو حركة «أمل» حتى انبثق «حزب الله» الذي أُعلن عنه رسمياً في العام 1984 بقيادة الشيخ صبحي الطفيلي، قبل طرده لاحقاً من الحزب.
أسس «حزب الله»، «المقاومة الإسلامية»، وخاض حرب تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، مكملاً مهمة قوى وأحزاب أخرى أطلقت المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني. وبغطاء ودعم إيراني–سوري، نما «حزب الله» وأحرز تقدماً مضطرداً في عملياته ضد الاحتلال حتى نجح في تحرير الجنوب اللبناني عام 2000. صعد نجم الحزب بعد إنجاز التحرير، وتنامى دوره الوطني ليصبح لاعباً أساسياً في المعادلة اللبنانية، فكانت له كتلة نيابية، ثم مقاعد وزارية، وأدار التنسيق مع الجيش اللبناني، وأمّن عمقاً استراتيجياً له وهي سوريا التي كانت ممراً لسلاحه، وطريق عبور له إلى إيران التي دعمت المقاومة.
التعايش مع المقاومة
في كل السنوات الممتدة من 1982 إلى اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط عام 2005، كان التعايش مع المقاومة وسلاحها الذي لم يمنع من أن تقوم ورشة إعمار لبنان التي بدأها الرئيس الحريري الذي كان في اتفاق الطائف يمثل السعودية، وترأس الحكومات باسمها تحت الرعاية السورية لحل الأزمة اللبنانية وتطبيق اتفاق الطائف، فلم تكن هناك شكوى من «حزب الله» وسلاحه، إلا عندما يتصدى لاعتداءات إسرائيل على لبنان، فيواجهها بالصواريخ التي أقامت توازن ردع ورعب مع العدو الإسرائيلي تبلور في أثناء العدوان الصهيوني صيف 2006، وقد كشفت تقارير دبلوماسية عن تواطؤ دولي وعربي ولبناني داخلي على سلاح المقاومة الذي ومنذ تحرير الجنوب في عام 2000، خرج وليد جنبلاط بنظرية «هانوي أم هونكونغ»، لتتأسس جبهة سياسية ظهرت في «لقاء قرنة شهوان» الذي رعاه البطريرك نصرالله صفير لإخراج القوات السورية من لبنان، باعتبار أن انسحابها سيضعف «حزب الله»، فتتمكّن الدولة من نزع سلاحه بحسب القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في مطلع أيلول (سبتمبر) 2004.
الفلك الإيراني
الانتصارات التي حققتها المقاومة في لبنان، وكان آخرها في هزيمة إسرائيل صيف 2006، قوّت من «حزب الله» فرأت فيه بعض دول الخليج وتحديداً السعودية، بأنه مركز نفوذ لإيران على البحر الأبيض المتوسط، بعد أن أرست طهران نفوذها في العراق عقب الغزو الأميركي عام 2003، كما في سوريا حيث ساندت دمشق بمواجهة مخطط إسقاط سوريا وتقسيمها وإخراجها من محور المقاومة، فتعزّز التحالف الإيراني–العراقي–السوري المرتبط به «حزب الله» وفصائل من المقاومة الفلسطينية، مما أفشل مشروع إسقاط النفوذ الإيراني في المشرق العربي، والذي يسميه العاهل الأردني الملك عبدالله، «الهلال الشيعي» الذي بات أوسع تمدداً نحو اليمن والبحرين وسُمي بـ«القوس الشيعي».
الغضب السعودي
هذا التوسع للنفوذ الإيراني عبر أذرعه العسكرية في العراق (الحشد الشعبي) وفي سوريا (الدفاع الوطني)، وفي لبنان (حزب الله)، وفي اليمن (الحوثيون)، أثار الغضب السعودي، ورأت المملكة أن المعركة انتقلت إلى حديقتها الخلفية، اليمن، حيث شنّت عبر ما أسمته «التحالف العربي»، حرباً شعواء مستمرة على الحوثيين والمتمردين على الرياض من أنصار الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي وقف الجيش إلى جانبه.
سمّى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حربه باسم «عاصفة الحزم» التي بدأت عام 2015، وقيل إنها ستنتهي في غضون أسابيع، تعود من بعدها «الشرعية» مع عبدربه هادي منصور إلى صنعاء، لكن بعد أكثر من عامين ونصف على الحرب، تستمر الخسائر بمطاردة القوات السعودية وحلفائها في اليمن، وبدلاً من أن تحسم الرياض الحرب لصالحها باتت المعركة ضمن أراضيها مع تساقط الصواريخ على الرياض ومناطق أخرى، وتمدد الحوثيين داخل أراضي المحافظات السعودية الحدودية، وسط ارتفاع منسوب القلق في الرياض حول تحرك أبناء المنطقة الشرقية في القطيف والعوامية، وحصول عمليات عسكرية، حيث يتّهم المسؤولون السعوديون إيران بتحريك مجموعات في هذه المنطقة الغنية بالنفط وذات الأغلبية الشيعية.
الحرب على لبنان
وفي ظل تصاعد الحرب في اليمن، والإنجازات العسكرية التي حققها محور المقاومة في سوريا والعراق، كما في لبنان بدحر الإرهابيين من جرود الشرقية، قررت السعودية أن ترد على إيران من البوابة اللبنانية، برفض أن يكون مَن يساند الحوثيين في اليمن، –«حزب الله»– ممثلاً في الحكومة اللبنانية التي يرأسها سعد الحريري، وهو المحسوب عليها ويحمل جنسيتها حيث لم يتمكّن الأخير من دفع «حزب الله» إلى الانسحاب من ساحات الصراع الإقليمية، كأحد أذرع إيران، في ظل اتفاق «ربط النزاع» مع «حزب الله» الذي التزم به الحريري متغاضياً عن مشاركة الحزب في الحرب السورية، وأيضاً في دعم الحوثيين في اليمن، ومساعدتهم على إطلاق الصواريخ التي تهدد أمن المملكة.
أطلقت السعودية تحذيرات وإشارات وصولاً إلى التهديد عبر وزير الدولة لشؤون الخليج ثامر السبهان الذي وصف «حزب الله» بـ«حزب الشيطان»، وخيّر اللبنانيين بين مَن هم مع السعودية ومَن هم مع «حزب الله»، واعتبر الحكومة التي يشارك فيها الحزب ويقصف المملكة، هي «حكومة حرب» وستتعامل معها السعودية على هذا الأساس.
استقالة الحريري إلى أين؟
مع تطور قضية استقالة الحريري الغامضة، يبدو أن المخرج السعودي من الأزمة التي اتخذت أبعاداً دولية تهدد سمعة المملكة، سينحصر في النهاية حول مطلب ابتعاد «حزب الله» عن اليمن، وهو ما لمّح له الرئيس الحريري في مقابلته التلفزيونية التي كانت أهدأ من بيان الاستقالة، وطرح التفاوض حول هذا الموضوع الذي تعتبره المملكة، أنه شرط لتسمح باستمرار التسوية الداخلية اللبنانية التي دافع عنها الحريري وأكّد التزامه بها.
في المحصلة، لا يرى ولي العهد السعودي، إلا استقالة الحكومة، مدخلاً للتفاوض على دور «حزب الله» في اليمن، وهذا يعقّد الوضع السياسي اللبناني الذي لم تنجح استقالة الحريري بزعزعة استقراره وأمنه، لا بل خلقت تضامناً معه، وعزّزت الوحدة الوطنية ومنعت الانزلاق نحو فتنة داخلية كان يُراد منها أن تكون ورقة التفاوض السعودية بوجه «حزب الله» للخروج من اليمن، والذي ردّ عليه أمينه العام السيد حسن نصرالله، أن اليمنيين هم الذين يُصنعون الصواريخ والطائرات دون طيار، ومدربون عليها، ولا يمكن أن تخفي السعودية مغامرتها العسكرية الفاشلة في اليمن بفرض الاستقالة على الحريري لإسقاط الحكومة وزرع الفوضى في لبنان.
إن ربط أزمة الاستقالة بحرب اليمن، هو لتأجيج صراع في لبنان، لكن يبدو أن قادة البلاد واعون لذلك.
Leave a Reply