«النأي بالنفس»، هي العبارة التي رددها الرئيس سعد الحريري، أكثر من 20 مرة، في إشارة إلى تحييد لبنان عن أزمات وصراعات وحروب المنطقة، رافضاً تدخله كدولة، أو أطراف سياسية فيه، في شؤون دول أخرى، أو أن يكون لبنان في محور ضد محور آخر.
وموضوع حياد لبنان، أو ابتعاده عن لعبة الأمم وصراعاتها وتحوله إلى لعبة بيد الأمم، يعود إلى عقود بعيدة، لا بل إلى حوالي قرنين من الزمن، عندما تولت سبع دول، الوصاية على طوائفه إثر الأحداث الأهلية الدامية التي وقعت بين الموارنة والدروز في جبل لبنان في ظل السلطنة العثمانية، حين بدأ اللبنانيون يعرفون الانتداب الأجنبي واستخدامهم في إطار صراع النفوذ الدولي الذي لم يتوقف قط.
الصراع البريطاني–الفرنسي
احتفل اللبنانيون في الذكرى الـ74 للاستقلال، الأسبوع الماضي، والذي ولد نتيجة صراع بريطاني–فرنسي، على مَن يملك القرار في بلد لا ثروات طبيعية فيه ولا موارد مغرية سوى موقعه الاستراتيجي على البحر الأبيض المتوسط، كصلة وصل بين الشرق والغرب، وهو ما أكسبه مكانة جيوسياسية عند الدول العظمى.
في زمن الاستقلال وقف الانتداب الفرنسي مع «الكتلة الوطنية» التي أسسها إميل إده وترأسها فوصل إلى السلطة، وعندما تقدم البريطانيون، ليكون لهم موطئ قدم في دولة على البحر المتوسط، كان تحالفهم مع «الكتلة الدستورية» برئاسة بشارة الخوري الذي انتخب رئيساً للجمهورية، وعدّل الدستور بشطب كل فقرة تتصل بالانتداب الفرنسي، الذي غضب قادته، وزجوا بأركان الحكم في السجن، واستبدلوهم بإدّه وحزبه، إلا أن انتفاضة شعبية أخرجت رئيس الجمهورية وعدداً من الوزراء من السجن، وزال الانتداب الفرنسي ليحل مكانه النفوذ البريطاني الذي استمر حتى العام 1958 بخروج الرئيس كميل شمعون من رئاسة الجمهورية ووصول قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب بتسوية أميركية–مصرية في عهد الرئيس جمال عبدالناصر.
حروب الآخرين
استمرّت التسوية الأميركية–المصرية في لبنان، إلى ما بعد حرب العام 1967 التي شنتها إسرائيل وانهزمت فيها الجيوش العربية، لتظهر المقاومة الفلسطينية بقوة على الساحة اللبنانية، فانقسم اللبنانيون حولها، بعد ظهور «الحلف الثلاثي الماروني» بمواجهة الشيوعية أو المد اليساري، فنشأ صراع أهلي بين الحلف الذي قاده كميل شمعون، وبين المنظمات الفلسطينية التي قامت بعمليات خطف طائرات مدنية وسفراء تحت شعار «العنف الثوري»، ليتحول الصراع بين المقاومة الفلسطينية ومناهضيها، إلى حروب الآخرين على أرض لبنان في ظل الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة.
اندلعت الحرب الأهلية في لبنان، فرأى اليمين المسيحي (السلطة)، أن مصلحته هي في «التحالف مع الشيطان» للحفاظ على مكاسبه في النظام السياسي، فكان لهم حلفاء في الإدارة الأميركية ثمّ في الكيان الصهيوني، إضافة إلى حلفهم مع ما كان يسمى «الرجعية العربية» وفق التوصيف اليساري لدول الخليج وعلى رأسهم السعودية، التي كانت يجمعها مع اليمين اللبناني المواجهة مع المدّ اليساري (الشيوعية)، وفق ما كان يؤكّد مؤسس «حزب الكتائب» بيار الجميّل.
الحياد الإيجابي
وفي ظل التدخلات الخارجية في لبنان والتي استمرت طوال الحرب الأهلية وما بعدها، واستندت إليها أطراف لبنانية سياسية وطائفية، كان شعار «حياد لبنان» يطرح عند كل منعطف دولي ومع كل أزمة داخلية.
المطالبة مع «حياد لبنان»، بدأت أولاً تحت شعار «لا شرق ولا غرب»، أي لا توجه نحو العروبة والالتحاق بالوحدة العربية، ولا الاحتماء بالغرب الذي كان بالنسبة لبعض المسيحيين «الأم الحنون».
لاحقاً انتشرت مقولة، أن لبنان ذو وجه عربي، وهو ليس للغرب ممراً أو مقراً، كشعار له طابع داخلي مرتبط بالخارج، أطلقه الرئيس صائب سلام على مبدأ «لا غالب ولا مغلوب»، إثر انتهاء الصراع الداخلي المحدود في العام 1958، بين مشروعين: عربي يقوده الرئيس جمال عبدالناصر، ودولي–إقليمي تقوده أميركا وضم إيران وتركيا والعراق، تحت عنوان محاربة الشيوعية، ومنذ ذلك الوقت لم يتمكن لبنان من أن يدخل في «حياد إيجابي»، بل تورّط في المشاريع السياسية المستمرة لمنطقة «الشرق الأوسط».
تغيير في المنطقة
خلال الحرب الأهلية، كان «الحياد» يُطرح من فريق سياسي لبناني، لتحييد لبنان عن مواجهة إسرائيل التي كان ولازالت لها أطماع في لبنان بأرضه ومياهه، وقد شردت نصف مليون فلسطيني في العام 1948، ومنعتهم من العودة، وباشرت بالتآمر على توطينهم في لبنان، وهو ما اتّخذه «حزب الكتائب» وحلفاؤه في الأحزاب اليمينية المسيحية ذريعة للتضييق على الفلسطينيين وكأنهم هم أصحاب مشروع التوطين، فبدلاً من أن تواجه السلطة اللبنانية إسرائيل، قاتلت الفلسطينيين بحجة سلاحهم الذي كانت وجهته الإحتلال الإسرائيلي من أجل عودتهم إلى ديارهم.
ثورة المقاومة الفلسطينية أحدثت تغييراً في المنطقة، وفرضت القضية الفلسطينية على خارطة العالم رغم محاولات طمسها، في وقت لهثت بعض الدول العربية للإستسلام أمام العدو الإسرائيلي، كما فعل النظام المصري برئاسة أنور السادات، وكان سيتبعه لبنان لو نجح المشروع الكتائبي–الإسرائيلي الذي حطمته المقاومة الوطنية والإسلامية، وقد لعبت سوريا دوراً مركزياً في دعم المقاومة وساندتها إيران التي ناصرت ثورتها قضية فلسطين، في وقت بدأت الأنظمة العربية تفرط بها، وكذلك بعض المسؤولين في منظمة التحرير الفلسطينية نفسها.
انتصارات المقاومة
المقاومة اللبنانية التي ولدت من رحم المقارمة الفلسطينية، حققت انتصاراً تاريخياً على العدو الإسرائيلي وطردته من لبنان في عام 2000، ثم كسرت عدوانه في العام 2006، لترسخ معادلة معاكسة لما أرسته الأنظمة العربية بمنحاها ونحو الاستسلام أمام الكيان الصهيوني الذي هزّته الانتفاضة الفلسطينية التي بدأت بالحجارة، ثم السكين والتفجير إلى استخدام الصاروخ، وهو ما أدى إلى انسحاب إسرائيل من غزة عام 2004، كما حصل في لبنان، فاشتد عود محور المقاومة الذي راحت إنجازاته تعرّي الأنظمة التي تخلّت عن فلسطين ومدينة القدس وحق العودة للاجئين الفلسطينيين، في وقت أطلقت إيران «يوم القدس» وراحت تعزز المقاومة في لبنان التي قادها «حزب الله»، وفي فلسطين عبر فصائلها المتعددة.
المؤامرة على سوريا
ومع الانتصارات التي حققتها المقاومة في لبنان وفلسطين، كان لا بدّ من المؤامرة على سوريا لضرب المحور المتنامي بعدما رفضت دمشق الطلبات الأميركية التي نقلها وزير الخارجية الأميركية كولن باول للرئيس بشار الأسد بعد غزو العراق، بأن تتخلى عن المقاومة فتمنعت دمشق وصمدت حتى اندلع «الربيع العربي» برعاية أميركية–إقليمية، من أجل إقامة «شرق أوسط كبير»، تحدثت عنه بوضوح إدارة الرئيس جورج بوش.
إلا أن الانتصار الذي تحقق في لبنان عام 2006، بإحباط محاولات نزع سلاح المقاومة، كان بداية «زمن الانتصارات» الذي يتوج اليوم بقرب دحر مؤامرة تقسيم سوريا بعد النجاح بالحفاظ على وحدة العراق بوأد الاستفتاء الكردي، ليثبت محور المقاومة من طهران إلى بغداد فدمشق وبيروت وصولاً إلى غزة، أقدامه ويمنع إعادة ترسيم حدود دول المنطقة وفق الأهواء الإسرائيلية التي تدفع اليوم لإعادة خلط الأوراق بيتأجيج الصراع الخليجي–الإيراني تحت شعار «العروبة في مواجهة الفرس» أو رفض التمدد «الشيعي–الصفوي». فكان لا بدّ من مواجهة على الساحة اللبنانية، فجاءت مجدداً تحت شعار «النأي بالنفس»، الذي بدأ مع الأزمة السورية و«إعلان بعبدا» الذي رعاه الرئيس السابق ميشال سليمان، ورأى فيه «حزب الله» محاولة لتحويل لبنان إلى «خاصرة رخوة» لإسقاط سوريا، وتحوله إلى «إمارة إسلامية»، فذهب إلى سوريا وانخرط في القتال ضد الجماعات الإرهابية التكفيرية، ولم تنفع معه كل محاولات الضغط السياسي والإعلامي حتى تحقق الانتصار بالقضاء على «داعش» وحماية لبنان من أن يتحول إلى قاعدة أو ساحة للإرهاب.
«حزب الله» يعود إلى لبنان
ومع انتهاء العمليات العسكرية الكبرى ضد «داعش» في العراق وسوريا، أعلن الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، الأسبوع الماضي، عن قرب عودة مقاتليه إلى لبنان، مؤكداً أنه لا يتدخل في اليمن، نافياً الاتهام الذي تذرع به السعوديون لتبرير فرض الاستقالة على الرئيس الحريري، كما أكد نصرالله أن الحزب ليس موجوداً في البحرين أو في الكويت، مسقطاً بذلك كل الذرائع التي أعلنها وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم العاجل الذي وصف «حزب الله» بأنه «تنظيم إرهابي»، لمنع مشاركته في الحكومة التي ستكون محور البحث مع عودة الرئيس الحريري إلى بيروت.
غير أن الحريري علق استقالته نزولاً عند طلب رئيس الجمهورية ميشال عون بالتريث حتى يتم البحث بأسبابها بهدوء ودون ضغوط كالتي مورست على الحريري في الرياض. مما يشير إلى أن الحريري مقتنع بالتسوية السياسية التي حصلت بانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وترؤسه هو، الحكومة، كما أنه مقتنع باتفاق «ربط النزاع» مع «حزب الله» قبل نحو أربع سنوات لمشاركته في القتال بسوريا.
ولقد أعلن «حزب الله» صراحة، أنه ينأى بنفسه عن الصراعات في الدول الأخرى، سوى ما قام به في سوريا عبر مقاتليه وفي العراق عبر خبراته وفي فلسطين عبر إرسال السلاح والصواريخ إلى المقاومة.
وفي قراءة للمواقف الأخيرة بذكرى الاستقلال يبدو أن استقالة الحريري التي أرادها لإحداث «صدمة» –كما قال– قد طويت، فـ«حزب الله» لم يعد مضطراً للتواجد العسكري خارج الحدود، والحديث عن تجريد المقاومة من سلاحها مرفوض لبنانياً ولا طاقة للحريري به.
والنأي بالنفس هو واقع، إلا مع العدو الإسرائيلي والجماعات الإرهابية، وقد قال رئيس الجمهورية في رسالة الاستقلال إن لبنان يلتزم بميثاق الجامعة العربية ويطلب أيضاً عدم التدخل بشوؤنه ومنها فرض الاستقالة على رئيس الحكومة وحجزه وهو فعل يخالف اتفاق فيينا وقد أنقذه موقف عون وتدخل فرنسي–مصري أعاد وضع مظلة دولية واقليمية فوق لبنان تحمي استقراره وتحفظ مؤسساته الدستورية وتسويته السياسية من التهور السعودي، وتبقي الرئيس الحريري في رئاسة الحكومة.
Leave a Reply