صادف قدومي، أنا وعائلتي، إلى الولايات المتحدة الأميركية، قبل أسابيع قليلة من حلول عيد الشكر. صدمني الجو البارد والأشجار التي تتعرى من أوراقها والطرقات الواسعة الموحشة. زاد ذلك من حزني ووحشتي في هذه الدنيا الجديدة. فقد تركت وطناً يمزِّقه أبناؤه بالمناكفات والحروب العبثية، وينحره عدوٌ ظالم محتلٌ، ويكويه بنيران حقده وعدوانه، ولا يزال.
ضاقت الحياة في عينيّ. شعرت بأني مثل هذه الشجرة العارية في البرد والصقيع. لكن الشجرة وحيدة، ليس معها أربعة أولاد.
كنا ننتظر إقلاع الطائرة في مطار هيثرو، رأتني سيِّدة تشبه «الشاويش عطية» وأنا أحاول أن أهدئ أولادي وأسكتهم. عندما علمت بأني مسافرة وحدي معهم، فنجرت عينيها قائلة لي: أنتِ مجنونة، كيف لديك الجرأة للسفر إلى المجهول مع أربعة أولاد؟
كلمة تلك السيدة بقيت ترن في عقلي. نعم أنا مجنونة. رغم كل شقاء القدر في بلدي، يبقى أرحم من هذا البرد وهذا الخواء والعراء الذي يلف هذه المدينة. ما معنى الحياة؟ ولماذا هذا الشقاء؟ ألا من نهاية لبؤس المعاناة؟ وهؤلاء الأولاد، لماذا جنيتُ عليهم كما جنى عليَّ أبي؟ وأنا ولجت في حرب لا شأن لي بها، ومات أبي وأخي وكانت قريتي تحت الإحتلال الإسرائيلي. أنا الإنسانة البسيطة، أحببت وطني بكل قواي وأبحرت الحرب بي إلى الهجرة. هاجر جدي في الربع الأول من القرن هرباً من الحرب العالمية الكبرى، وها أنا كنت أهاجر في ربعه الأخير هرباً من الحرب اللبنانية الكبرى.
بدت هذه الدنيا قاسية ملعونة وبلا رحمة. ناسها بلا رحمة بلا محبة.
لا زالت سوء معاملة مختار القرية وتعالي مأمور النفوس وابتزاز موظف الأمن العام لإكمال معاملة المستندات اللازمة للسفر ماثلة أمامي،. كما مرارة آخر مشهد في مطار بيروت الدولي وانعدام أخلاق الموظفين فيه، ووجوههم العابسة، وصور حافظ الأسد وابنه بشار تملأ الجدران والقاعات. ثم ماذا؟ هذه أميركا الحلم هل هي أفضل؟ وجدت نفسي في بيت قديم متهالك وجو بارد وكئيب وأناس لا يتكلمون العربية.
مثل هذه الشجرة العارية في البرد والصقيع وجدت نفسي. الشجرة وحدها، ليس معها أربعة أولاد حملتهم بجنون كما قالت تلك السيدة في مطار لندن، ونحن ننتظر إقلاع الطائرة التي سوف تحملنا إلى مدينة بعيدة.. في أميركا.
ضاقت الدنيا في عيني. تمنيت النوم، تمنيت لو عيناي تغمضان، لم أقدر. نسيت ذكر الله، تركت الصلاة، كنت أتصوَّر أنني الأتعس والمعذبة الوحيدة بين خلق الله جميعاً. الحقيقة لم أكن كذلك. إن أنا نسيت الله، فالله سبحانه وتعالى لم ينسني.
صادفت سيدة أرمنية تعيش في القسم المقابل للمكان الذي كنت أسكن فيه، تتكلم العربية المكسَّرة. أول إنسان في هذه المدينة الغريبة أسمعه يتكلم العربية، غير بعض الأقرباء. حاولت بوجهها الجميل وحبورها اللطيف أن تخفف عني: «خربت عمرت طلعت نزلت حايد عن ظهري، بسيطة»، كانت تردد في محاولة للتودد لي ولأولادي. هذه السيدة هي نفسها صديقتي الجميلة، التي كتبت عنها سابقاً، التي دخلت بهدوء في أيامي كما يسيل الماء في الجدول، حيث هي وجدت فيَّ الابنة التي فَقَدَت، ووجدت أنا فيها الأم التي تمنيتها في بلاد الغربة.
من خلال السيدة المسيحية الأرمنية تعرفت على الراهبة الأخت بوليت ومساعدتها شيرلي. غمرتني البوليت بحديثها الخافت المفعَم بالمرح وكانت ترسل تقريباً كل يوم ما يحتاجه أولادي من طعام وعصير، هذا عدا الألبسة والأحذية والمشاركة في الاحتفالات الجميلة العديدة بمناسبة عيد الشكر.
عيد الشكر! الشكر على ماذا؟ ولماذا هؤلاء يستعملون كلمة شكراً كثيراً؟ وفيما بعد عندما سألت الأخت بوليت ما هو الدافع لشد عزيمتها في أعمال الإحسان والبِّر، كانت تقول: هي محبة الله وشكره على نِعَمِه. من صديقتي الأرمنية الجميلة ومن الأخت بوليت، تعلمت محبة الله وشكره على الطريقة الأميركية. تعلمت أن الرحمة والشفقة لم تنضبا. تعلمت قوة الاحتمال والصبر على معاناة الحياة.
أنَّبنِي ضميري كثيراً، لأني نسيت أن أشكر الله على نعمه الكثيرة في حياتي، وأكبر نعمة هي نعمة الصحة والعقل.
أرجعتني الراهبة بوليت إلى دفء الإيمان بالله ومحبة الله وليس بالخوف منه. وكانت تشجعني –وأنا المسلمة– على الصلاة وعلى شكر الله ومساعدة الآخرين.
وبعد انتقالي من تلك المدينة إلى ديربورن، بقيَت على تواصل معي، وكانت تفرح كثيراً بنجاح أولادي وتفوقهم.
هذه السنة توفيت الراهبة بوليت وتوفيت صديقتي الأرمنية الجميلة.
وأنا أذكرهما في هذه الأيام، أيام عيد الشكر الذي له مكانة خاصة عندي بسببهما، وأقول لهما: شكراً لله الذي شاءت قدرته ومحبته أن ألتقي بكما في أول أيام وصولي إلى أميركا. وعذراً منك يا الله وشكراً لكل نعمك ورحمتك!
Leave a Reply