لم يتوقف العدو الإسرائيلي عن تجنيد العملاء له من بين اللبنانيين وآخرهم الممثل المسرحي زياد عيتاني، أو من دول عربية أو أجنبية. ولا شك في أن الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) ليست الجهة الوحيدة بين أجهزة المخابرات في العالم، التي توظف أشخاصاً يعملون لخدمتها، إلا أن الكيان الصهيوني ومنذ زرعه في فلسطين واغتصاب أرضها في العام 1948، لم ينفك عن العمل للتواصل مع أفراد أو أحزاب أو أنظمة عربية، من أجل استمرار وجوده، ولكي يعرف ويجمع المعلومات عن «عدوّه العربي»، وللقيام بأعمال تخريب واغتيالات وزرع الفتن بين الطوائف والمذاهب، ومحاولة تقديم نفسه كمدافع عن الأقليات الدينية وحامٍ لها.
العملاء الأوائل
لقد كشفت مذكرات قادة إسرائيليين وعرب، ووثائق دول وتقارير استخباراتية عن أن الدولة العبرية، ومنذ نشوئها، بدأت تعمل ليكون لها عملاء في داخل المجتمعات العربية، كما في مؤسسات الدول وجيوشها، حيث بدأت العمالة مع رأفت الهجان في مصر، ثمّ أرسلت ايلي كوهين الجاسوس اليهودي إلى سوريا باسم كامل تابت والذي تغلغل في مؤسسات الدولة السورية وتواصل مع قيادات وشخصيات فيها فانكشف وأُعدم في ساحة المرجة بدمشق وما زالت اسرائيل تطالب بجثته، إضافة إلى ما كشفه موشي شاريت وزير الخارجية الإسرائيلية عن إتصالات مع «حزب الكتائب» اللبناني منذ خمسينات القرن الماضي، والتي ترجمت في الحرب التي اندلعت في العام 1975، بمواجهة المقاومة الفلسطينية، لتتطور العلاقة بين هذا الحزب والعدو الإسرائيلي في مرحلة الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، والذي ظهر فيه بشير الجميّل إلى جانب وزير الدفاع الإسرائيلي أرييل شارون وضباط إسرائيليين يخططون لهذا الاجتياح الذي وصل إلى العاصمة بيروت وانتُخب الجميّل رئيساً للجمهورية، ثم اغتيل بتفجير «بيت الكتائب» في الأشرفية.
التساهل مع الخيانة
لم يردع اغتيال بشير الجميّل، العملاء من أن يستمروا في تعاونهم مع العدو الإسرائيلي، إذ استمر شقيقه أمين الذي انتخب رئيساً للجمهورية بعده في ظل الاحتلال الإسرائيلي، الذي حاول فرض «اتفاق سلام»، على لبنان كما فعل مع النظام المصري برئاسة أنور السادات الذي وقّع «اتفاقية كامب ديفيد»، واغتيل إثرها، وهو ما فتح باب التنازلات لأنظمة عربية أخرى، في أن تستمر بسياسة الاستسلام أمام العدو الإسرائيلي، بدعم أميركي.
رفض الاستسلام
وفي الوقت الذي كانت أنظمة عربية تزحف نحو الإستسلام مع العدو الإسرائيلي، وتطبع معه، كانت المقاومة في لبنان، تقارع الاحتلال الإسرائيلي وتفرض عليه الإنسحاب ولو تدريجياً من أراضيه، حيث كان صعودها، يوقظ الشعوب العربية، وتدفعها للوقوف بوجه أنظمتها المستسلمة، والتي توسعت مع مؤتمر مدريد للسلام، الذي انعقد في العام 1991 مع إنهيار الاتحاد السوفياتي وتفرد الولايات المتحدة الأميركية بالنظام العالمي، وتقوية نفوذها من خلال إخراج الجيش العراقي من الكويت بعد غزوه لها بقرار من الرئيس العراقي صدام حسين، والذي تسبّب بتشرذم عربي وتفكك المنظومة العربية، التي تمثّلت في جامعة الدول العربية لتدخل إسرائيل كدولة من دول المنطقة عبر عملية السلام.
أجواء التطبيع
هذه الأجواء الاستسلامية شجّعت الأنظمة العربية على تعميمها، وفتح باب التطبيع مع الكيان الصهيوني تحت شعار القبول بـ«الأمر الواقع» وفشل نظرية إزالة «دولة إسرائيل» من الوجود، وبالتالي لا مفرّ من الاعتراف بها، والتعامل معها ككيان موجود ومعترف به في الأمم المتحدة، على أن تجاوره دولة فلسطينية، تحوّلت إلى سلطة مع «اتفاق أوسلو» الذي لم تلتزم به إسرائيل منذ توقيعه في العام 1993 بينها وبين منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات، حيث لم تنسحب إسرائيل من الضفة الغربية، وفُرض عليها الانسحاب من غزة بفعل المقاومة، ولم توقف بناء المستوطنات، وترفض عودة الفلسطينيين النازحين، ولا تقبل بالقدس عاصمة لدولة فلسطين.
لاءات إسرائيلية
هذه اللاءات الإسرائيلية، وتقديم أنظمة عربية لمبادرات تحت مسميات السلام، كانت ترفضها إسرائيل، التي كانت تفتح أمامها أبواب الدول العربية لفتح سفارات كما في «اتفاق وادي عربة» مع الأردن، أو إقامة ممثليات تجارية كما في قطر، ثمّ في إقامة علاقات ثقافية، حيث بدأت تظهر صور لقاءات بين مسؤولين إسرائيليين وآخرين عرباً، ومنهم من جنسيات سعودية، دون أن يحصل أي رد فعل سياسي أو شعبي، إلا إدانة من بعض القوى في محور المقاومة، حيث تتقدم اللاءات الإسرائيلية الرافضة لإعطاء الفلسطينيين حقوقهم، الذين أمام تراجع أنظمة عربية وتقديم التنازلات.
عيتاني يقع في الفخ
في ظل هذا المناخ الرسمي العربي المستسلم أمام العدو الإسرائيلي، والذي فتح باب العلاقة والتطبيع معه، فإن إسرائيل التي هزمها لبنان في صراعها معه على مدى عقود، تحاول العودة إليه دائماً من خلال العملاء، الذين تعمل على تجنيدهم لصالح أهداف أمنية لها، وكان آخر مَن جنّدتهم الممثل المسرحي زياد عيتاني الذي فوجئ اللبنانيون بوقوعه في فخ ضابطة إسرائيلية تعمل لصالح المخابرات وتدعى كوليت فيانفي، والتي تعرّف عليها من خلال مواقع التواصل الإجتماعي، حيث وقع خيارها عليه بعد أن استجمعت معلومات حوله، ورأت فيه الشخص الذي يمكن أن يوصلها إلى ما تريد، كونه صاحب شهرة في الأوساط الشعبية ويستطيع أن يقابل مَن يشاء.
وأوقعت المشغلة الإسرائيلية بعيتاني على مدى ثلاث سنوات، من خلال المال والجنس، لتطلب منه أن يزودها بمعلومات حول شخصيات لبنانية، إما مباشرة بالعلاقة معهم، أو عبر مساعديهم وأقربائهم، وركّزت على وزير الداخلية نهاد المشنوق والوزير السابق عبدالرحيم مراد، إضافة إلى اللواء أشرف ريفي وأحمد الحريري وغيرهم، وسار عيتاني في مخططها حتى بعد أن عرف أنها إسرائيلية وليست سويدية، وأنها ضابطة في مخابرات العدو حيث تبين في التحقيق أنها ابتزّته جنسياً في فيلم مصور.
عملاء في لبنان
عيتاني الذي تمّ كشفه من خلال متابعة هاتفه من قبل أمن الدولة، لم يصل الأمر بعد إلى عمل أمني، وفق ما أظهر التحقيق، بل كانت مهمته تجميع إعلاميين ومثقفين وفنانين من أجل خلق مناخ يطالب بالسلام مع إسرائيل ورفض العنف، ونزع السلاح من «حزب الله»، حيث اختار مجموعة إعلامية تنحو في هذا التفكير، بالرغم من أن سيرته تشير إلى أنه يؤمن بالمقاومة، ويرفض الصلح مع إسرائيل، وعمل لفترة مسؤولاً إعلامياً في تنظيم «المرابطون» الذي يرأسه العميد المتقاعد مصطفى حمدان المقرّب من «حزب الله».
ولكن عيتاني ليس هو أول لبناني يتم اعتقاله بتهمة التعامل مع المخابرات الإسرائيلية.
فلقد سبق توقيف عيتاني قبل بضعة أسابيع، اعتقال الفتاة جنى أبوذياب، بتهمة العلاقة مع العدو الإسرائيلي، وهي التي ترأس جمعية «معاً إلى فلسطين»، ولها نشاط داعم للقضية الفلسطينية، وهي اللبنانية من الشوف في جبل لبنان، حيث كان اعتقالها من قبل الأمن العام صدمة لأهلها وأصدقائها، وهي تحمل جواز سفر فلسطيني وترتدي الكوفية الفلسطينية.
وقبل أبوذياب، أوقف سليم أبوحمدان الذي عمل في أمن النائب وليد جنبلاط وكان مسؤولاً عسكرياً في الحزب التقدمي الاشتراكي، وتم التحقيق معه حول اتصالات له مع الكيان الصهيوني، والتعامل معه ليتبيّن أن هاتفه كان يستخدم من قبل زوجته الثانية والتي اعتقلت أيضاً، وأفرج عن أبوحمدان.
وسبق بأشهر عدة، أن تم توقيف يوسف فخر المعروف بـ«الكاوبوي» وهو مسؤول عسكري سابق في الحزب التقدمي الإشتراكي في بيروت أثناء الحرب، وسافر إلى أميركا قبل 30 عاماً، ليتم تجنيده من قبل مقاتل سابق في «القوات اللبنانية» ناجي النجار الذي تعرف عليه في أميركا إضافة إلى مهند موسى الذي كان يعمل مع المخابرات السورية في لبنان ويعرفه منذ تلك الفترة وجدد اتصاله به بعد انشقاقه عن النظام السوري كما ارتبط بعلاقة مع مندي الصفدي الذي يعمل في مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حيث استغلّ الصفدي مذهبه الدرزي، ليطلب من فخر تجنيد عناصر درزية لتقاتل إلى جانب المعارضة السورية ضد النظام، حيث اعترف بالعلاقة مع العدو الإسرائيلي وستبدأ محاكمته.
محاكمة الشرتوني
واستمرار وجود أشخاص للتعامل مع العدو الإسرائيلي وتنفيذ مخططاته، سببه هو عدم التشدد مع الذين ثبت تعاملهم مع الاحتلال الإسرائيلي في لبنان، وقيام ما سمي «الحزام الأمني» بقيادة العميل أنطوان لحد الذي مات في الأراضي المحتلة، إذ جاءت الأحكام مخففة عن العملاء الذين هناك مَن يطالب بالعفو عنهم، في وقت جرت محاكمة حبيب الشرتوني بعد 35 عاماً على تنفيذ عملية اغتيال بشير الجميّل الذي تعاون علناً مع العدو الإسرائيلي بشن حرب على لبنان، وهو ما يضعه القانون اللبناني في مرتبة العملاء، إلا أن المعايير في لبنان تخضع للسياسة، فحكم المقاوم الشرتوني غيابياً بالإعدام، ولم ينظر القضاء في عمالة بشير الجميّل الذي يعتبر رئيساً للجمهورية، وهو ما كان سيحصل في أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006، بأن تتمكن إسرائيل أو عملاء لها في الداخل من إلقاء القبض على الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله ومحاكمته.
والسؤال هل مازال الزمن للعملاء أم للمقاومين؟
Leave a Reply