انتهت أزمة استقالة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، والتي كانت فُرضت عليه ليعلنها من السعودية قبل أكثر من شهر، وتريّث في تقديمها إلى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، بعد عودته إلى بيروت يوم عيد الاستقلال، نتيجة ضغوط لبنانية وعربية وإقليمية ودولية، مورست على ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لفك احتجاز الحريري الذي استجاب لرغبة الرئيس عون وعدل عن الاستقالة، بعد أن صدر قرار عن جلسة مجلس الوزراء الاستثنائية التي انعقدت في القصر الجمهوري وترأسها الرئيس عون، هو بمثابة بيان سياسي تلاه رئيس الحكومة، يؤكّد على الالتزام بالبيان الوزاري للحكومة الذي استند إلى خطاب القسم لرئيس الجمهورية، وهو النأي بالنفس عن أزمات وصراعات وحروب المنطقة وعدم التدخل في الشؤون العربية، وإقامة أفضل العلاقات مع الأشقاء العرب، من خلال تطبيق البند الثاني من اتفاق الطائف، بأن لبنان ذو هوية عربية لن يفرط بانتمائه إليها.
العودة عن الاستقالة
هذا البيان الذي أكد الرئيس الحريري على أنه قرار الحكومة التي اجتمعت كل مكوناتها على الموافقة عليه، صدر في نهايته شكر من أعضائها لرئيسها لعودته عن الاستقالة، وبذلك تكون طُويت بعد أن كان مخطط لها، أن تقود لبنان إلى فتنة، حسبما أكّد الرئيس عون في أكثر من لقاء له مع زواره. وهو ما أعلنه الرئيس نبيه برّي أيضاً، من أن لبنان اجتاز قطوعاً لحرب أهلية، كادت أن تقع، لولا لم تكن رد الفعل على استقالة الحريري من قبل قيادات لبنان الرسمية والسياسية، وتعاطت معها بالعقل والروية والتمسك بقرار لبنان المستقل، وتشبّث رئيس الجمهورية بالدستور، إضافة إلى ثبات الرئيس الحريري على موقفه الداعم للاستقرار والحفاظ على السلم الأهلي، وهو ما لاقى تأييداً له في «تيار المستقبل»، الذي حفظ لـ«حزب الله» وأمينه العام السيد حسن نصرالله حسن التصرف والأداء، حيث ساهم في إنقاذ لبنان من الاقتتال، وعودة الحريري.
دور «القوات اللبنانية»
ومع محاصرة استقالة الحريري، والخروج من أزمتها وعودة الحكومة إلى العمل، فإن تداعياتها السياسية لم تنتهِ بعد، لجهة محاسبة مَن كان وراءها والمحرّض عليها و«كتبة التقارير» إلى المسؤولين السعوديين ضد الرئيس الحريري، حيث يوجّه «تيار المستقبل» أصابع الاتهام إلى «القوات اللبنانية» أنها لعبت دوراً في دفع ولي العهد السعودي لاستدعاء الحريري إلى الرياض والطلب منه تقديم استقالته التي لا تقبل المملكة أن يكون في حكومة لبنان طرف هو «حزب الله» يشارك في الحرب عليها، حيث تحدث وزراء ونواب ومسؤولون في «تيار المستقبل» عن دور «للقوات» في استقالة الحريري التي قال رئيسها سمير جعجع، إنها كان يجب أن تحصل قبل أشهر، وأن لا عودة عنها.
المشنوق يفضح
وكان وزير الداخلية نهاد المشنوق أول مَن فضح دور «القوات اللبنانية»، في نقل صورة إلى السعودية عما يسمونه تنازل الحريري أمام «حزب الله»، واعترف بوجود «ندوب» في العلاقة بين «تيار المستقبل» و«القوات اللبنانية»، كما بين الرئيس الحريري وجعجع.
هذه الندوب، تحدث عنها وزير الثقافة غطاس خوري، وهو من فريق المستشارين للحريري، والذي كان له دور أساسي في التسوية الرئاسية التي أتت بالعماد عون رئيساً للجمهورية بعد موافقة رئيس «تيار المستقبل»، حيث علّق خوري على صفحته على «تويتر»، بعد استقالة الحريري عن «يهوذا الأسخريوطي» الذي باع السيد المسيح بثلاثين من الفضة إلى اليهود وسلّمه لهم ليعذبوه ويصبلوه، وقد ترك هذا التوصيف أسئلة حول مَن قصد الوزير خوري، وتعددت الأجوبة وانحصرت بثلاثة جعجع والنائب السابق فارس سعيد والذي كان يتولى الأمانة العامة لقوى «14 آذار» والكاتب السياسي رضوان السيد، المقرب جداً من الرئيس فؤاد السنيورة، ويعمل مستشاره، وقد مهّد بمقالات كتبها في جريدة «الشرق الأوسط» السعودية، تحمّل الحريري مسؤولية ما آلت إليه أوضاع لبنان من إمساك «حزب الله» بالقرار فيه، والإحباط الذي أصيبت به الطائفة السّنّية، حيث تردد في أوساط «تيار المستقبل» أن السيد هو مَن صاغ كتاب الاستقالة للحريري الذي طُلب منه قراءته.
تحالف ناشئ
ولقد نشأ مع استقالة الحريري، تحالف سياسي من أطراف داخلية رفضتها، وشكّلت حاضنة لرئيس الحكومة ولعائلته وتياره السياسي، وهذا ما ترك ارتياحاً سياسياً وشعبياً، تمّ التعبير عنه بالوحدة الوطنية وسقوط الاصطفافات السياسية، ونجا لبنان من أن يتحول إلى دولة حرائق، كما يحصل في دول أخرى، إذ أن الأدوار التي أدّاها كل من حركة «أمل» و«حزب الله» و«التيار الوطني الحر» و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، إلى جانب «تيار المستقبل»، في محنة رئيسه، أدّى إلى ظهور هذا التحالف الخماسي الذي بدأت «القوات اللبنانية» تتوجس منه، وأن يتحوّل إلى تحالف انتخابي، على مقربة خمسة أشهر من الانتخابات النيابية، حيث بدأت الأوراق تختلط، منذ انتخابات رئاسة الجمهورية، وسقطت تجمعات ما كان يعرف بقوى «8» و«14 آذار»، إلا من بعض الشعارات السياسية التي يلتقي عليها، هذا الطرف أو ذاك.
عزل «القوات اللبنانية»
هذا التحالف السياسي الذي وقف سدّاً منيعاً أمام فرض استقالة الحريري، التي استعجل جعجع قبولها مع حزب «الكتائب» واللواء أشرف ريفي وشخصيات مما تبقى من «14 آذار» وإجراء استشارات نيابية لتشكيل حكومة، وقع في فخّها الرئيس نجيب ميقاتي أيضاً ثمّ تراجع عن موقفه، حيث بدأت «القوات اللبنانية» تشعر بأنها وحيدة سياسياً، بعد أن أظهر ريفي ضعفه السياسي وعدم تأثيره على مجريات الوضع، ولم تتفاعل الساحة السّنّية إيجاباً مع الاستقالة، بل تعاطت الطائفة السنية برئاسة مفتيها الشيخ عبداللطيف دريان معها سلبياً كأمر مفروض على أبرز زعمائها السياسيين الحريري، وهو ما لفت انتباه السفارة السعودية في لبنان، التي لم تتمكن من تحريك مجموعات شعبية تؤيّد استقالة الحريري وما ورد حول أسبابها، حيث ظهرت «القوات اللبنانية» أنها معزولة سياسياً بسبب موقفها الخاطئ وقراءة رئيسها غير المستندة إلى معلومات ووقائع، وهو ما أربكه، وشعر أنه بات خارج تحالفه مع «تيار المستقبل» الذي لم يحصل لقاء بعد بين رئيسه ورئيس «القوات اللبنانية» الذي يستعجل حصوله ويتراجع عن خطابه عند حصول الاستقالة وقبلها، حيث دخل وسطاء على خط عودة العلاقات بين «بيت الوسط» ومعراب التي اهتزّ تفاهمها أيضاً مع «التيار الوطني الحر»، الذي تدور معركة وجودية بين الطرفين، حول التمثيل المسيحي الذي سيقرر في الانتخابات النيابية، ورفع رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل شعار «أوعا حالك»، بدلاً من «أوعا خيك»، للإشارة أن ينتبه «العونيون» إلى ذاتهم.
الانتخابات النيابية
وإذا كان من المبكر الحديث عن تحالفات في الانتخابات النيابية المقبلة، قبل مطلع العام الجديد، إلا أن المؤشرات السياسية تدل على أن نتائج استقالة الحريري ستفرض نفسها لإقامة تحالف موسع، لن يكون رباعياً، كما في العام 2005، والذي اقتصر على المكونات السياسية المسلمة («أمل» و«حزب الله» و«تيار المستقبل» و«الاشتراكي»)، بل خماسياً بانضمام «التيار الوطني الحر» الذي استبعد من تحالف قوى «14 آذار».
وهذا التحالف والذي قد ينضم إليه «تيار المردة» في بعض المناطق، لاسيما في الشمال، إضافة إلى قوى وشخصيات أخرى، فإن «القوات اللبنانية» بدأت تستشعر أنها ستكون خارجه، وهذا ما اعتبرته عزلاً لها، تحاول من خلال طرحه على استنهاض مسيحي حولها، تستخدمه في الانتخابات النيابية، باستعادة لمشهدين سابقين في مرحلتين مختلفتين، هما استغلال «حزب الكتائب» لشعار «الحركة الوطنية اللبنانية» عزله بعد مجزرة «باص عين الرمانة» في 13 نيسان 1975، والتي أطلقت شرارة الحرب الأهلية، وجمع المسيحيين حوله على أنهم مهددون بوجودهم، ثمّ إبعاد العماد عون وتياره السياسي عن التحالفات الانتخابية عام 2005، فتجمع المسيحيون حوله وأعطوه 70 بالمئة من أصواتهم.
المرحلة المقبلة
ومع التطورات التي حصلت خلال شهر، والتي كادت أن تكون مأساوية في لبنان، فإن المرحلة المقبلة هي للاستثمار في الوفاق السياسي الداخلي، لجهة تفعيل عمل الحكومة، والتحضير لإجراء الانتخابات النيابية المقبلة التي ستفرز نتائج جديدة، قد يظهر فيها اختراقات لما كان يحصل في النظام الأكثري، بعد أن أقرّت النسبية مع صوت تفضيلي، والتي ستعطي لكل طرف حزبي وسياسي حجمه النيابي وتمثيله الشعبي الذي سيحدد شكل الحكومة المقبلة من رئيسها إلى مكوناتها، وفق الأكثرية النيابية التي ستظهر، وقد ارتفعت شعبية الرئيس الحريري بعد ما جرى معه في الاستقالة المزعومة، إذ قرر أن يرتب «تيار المستقبل» ويطهره من «المشبوهين» فيه، لاسيما «كتبة التقارير»، حيث أكّد في لقاءاته مع كتلته النيابية والقيادات في «تيار المستقبل»، أن القرار فيه هو له وحده، من موقعه كرئيس، وكل مَن لا يريد الالتزام بقراره يمكنه أن يستقيل وينصرف إلى مكان آخر، إذ على ضوء ذلك سيقرر مَن هم المرشحون للانتخابات النيابية، وهو طرح موضوع التعديل الوزاري ليتخلص من الوزير جمال الجراح الذي كان في صف جعجع بقبول الاستقالة، وكذلك الوزير معين المرعبي، وقد أتى بهما الحريري وزيرين ليستوعب المتطرفين في تياره.
لقد فشلت عملية استقالة الحريري بالإكراه، ومع عودته عنها، سترسم ملامح مرحلة جديدة من التحالفات، ستكرس الاستقرار في لبنان.
Leave a Reply