ترامب معزولاً.. والرهان على التخاذل العربي
مرة أخرى تثير خطوات دونالد ترامب تساؤلات جدّية حول ما إذا كانت الولايات المتحدة لا تزال حقاً قويّة، بحسب أدبيات قادتها، وشعارات حملاتها الدبلوماسية والإعلامية والانتخابية.
رد الفعل العالمي على الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل، في المستويين الرسمي والشعبي، وفي دول العالم قاطبة، عكس عزلة، ربما لم تعرفها الولايات المتحدة منذ مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى، فقرار ترامب لم يحظ عملياً سوى بتأييد واحد، جاء من جانب إسرائيل.
ولعلّ المفارقة الكبرى في الخطوة الترامبية انها بدت عديمة الجدوى، لا بل عبثية، حتى في حيثياتها المعلنة، والمتحورة حول الضغط على الفلسطينيين والإسرائيليين لتحريك عملية التسوية المعلّقة منذ عهد باراك أوباما، وذلك من خلال فرض إطار للمفاوضات المقبلة بشروط إسرائيلية بحتة لا شك أنها ستؤدي في نهاية المطاف إلى انتهاء مسار بدأته الولايات المتحدة منذ مؤتمر مدريد وبعده اتفاق أوسلو.
رهان ترامب
ربما راهن ترامب على مواقف عربية متخاذلة أو في أفضل الأحوال مهادنة، ضمن شعارات براغماتية، لجعل قراره الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل «صدمة إيجابية» لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل لتحريك التسوية السلمية وفق الشروط التي لا يمكن للحكومة الإسرائيلية الحالية تقديم «تنازلات» بشأنها.
هذا التوجه، يستجيب بطبيعة الحال، إلى التحوّلات البنيوية التي طرأت على النظام السياسي في إسرائيل منذ وصول أرييل شارون وبعده بنيامين نتنياهو إلى الحكم، فالكيان الصهيوني يزداد يمينية، والغلبة فيه اليوم للمعسكر الأكثر تشدداً، المتمثل بالمستوطنين، الذين رسموا قبل ترامب سقف الشروط لأي تفاوض مع الفلسطينيين وفي مقدمتها رفض أية سيادة فلسطينية على القدس، والقبول بدولة فلسطينية ناقصة، على ما تبقى من الضفة الغربية.
على هذا الأساس، لا شك في أن ترامب قد نظر إلى جهات عربية مثل السعودية والإمارات ومصر كملاذ وسند لخطته، وذلك في إطار تفاهمات بدأت منذ بداية ولايته الرئاسية، وجرى الحديث خلالها عن اتفاق سلام إسرائيلي–فلسطيني قائم على مبدأ تبادل الأراضي، لحل العقدة الأساسية التي توقفت عندها المفاوضات قبل سنوات وهي وضع المستوطنات.
وبطبيعة الحال، فإنّ تسوية قائمة على مبدأ تبادل الأراضي –وهي العبارة التي صرّح بها ترامب شخصياً بعد لقائه بنيامين نتنياهو في شباط (فبراير) الماضي– لها شروطها الخاصة بالنسبة إلى الأميركيين والإسرائيليين، وهي أن ما سيُمنح للفلسطينيين في إطار اتفاق السلام المخطط له لن يشمل أية مساحات في الأراضي التي احتلها الصهانية في العام 1948، بل ستكون ضمن تسوية إقليمية تُطلق عليها منذ سنوات تسمية «الصفقة الكبرى»، وتقوم على تعويض الفلسطينيين عن الأراضي المقامة عليها التجمعات الاستيطانية بأراضٍ خارج نطاق الحدود التاريخية لفلسطين.
مشروع الوطن البديل
وعلى هذا الأساس، عاد الحديث قبل بضعة أشهر، عن مشروع «الوطن البديل» في سيناء، وهي خطة مطروحة من قبل إسرائيل منذ عقدين، وقد وضع تفاصيلها الدقيقة، المدير السابق للأمن القومي الإسرائيلي غيورا آيلاند على مرحلتين، الأولى في العام 2004 وشملت في ذلك الحين خطوطاً عريضة، والثانية في مؤتمر هرتسيليا في العام 2009 وكانت هذه المرّة أكثر تفصيلاً.
وبصرف النظر عن سيل المواقف الرافضة لقرار ترامب، من قبل الأطراف العربية الحليفة للولايات المتحدة، إلا أن صناع القرار في الولايات المتحدة، مقتنعون أن القضية الفلسطينية تحتل مكانة دنيا لدى أنظمة عربية كتلك القائمة في الخليج، قياساً إلى الأولويات الإقليمية المرتبطة خصوصاً بإيران.
وليست مصادفة أن يأتي قرار ترامب بشأن القدس بعد أيام على تسريب الخطوط العريضة للخطة التي عرضها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على الرئيس الفلسطيني محمود عباس للقبول بدولة فلسطنينية عاصمتها بلدة ابو ديس، بدلاً من القدس، أو بعد أشهر على التحرّك الإماراتي–المصري لتعويم القيادي الفتحاوي المفصول محمد الدحلان، وتهيئته لمنصب رئيس السلطة الفلسطينية مستقبلاً.
سيد جديد؟
ولكنّ الصورة لا تكتمل، لفهم ما بعد القرار الترامبي بشأن القدس إذا لم تشمل رصد التطوّرات العابرة للحدود في الساحة السورية والتي كان عنوانها العريض قبل أيام، حين حطت الطائرة الرئاسية الروسية في قاعدة حميميم في سوريا، والتي أعلن منها الرئيس فلاديمير بوتين النصر على «داعش» من جهة وسحب القوات الروسية من سوريا من جهة ثانية، مع الإبقاء على تواجد عسكري دائم في حميميم واللاذقية.
والأهم في حركة بوتين تجاوزها لزيارة القاعدة الجوية التي كان لها الأثر الكبير في التحولات الجذرية في الصراع السوري، إلى جولة إقليمية سريعة، ولكنها ذات دلالات كبرى، قام بها الرئيس الروسي إلى مصر وتركيا في يوم واحد، وهي رسالة واضحة أراد سيّد الكرملين من خلالها إفهام الأميركيين إنه بات سيّد منطقة الشرق الأوسط، سواء بالانتصار السوري أو في الشراكة الاستراتيجية مع إيران.
ولعلّ هذا الترابط العضوي بين قرار ترامب بشأن القدس وبين المواقف العربية المتواطئة على القضية الفلسطينية من جهة، وبين المتغيرات الميدانية والسياسية في سوريا والعراق من جهة ثانية، هو ما يجعل ثمة تقاطع مصالح بين الأميركيين والخليجيين على تصفية القضية الفلسطينية، في مقابل أثمان إقليمية عنوانها العريض تكريس تحالف أميركي–خليجي، في مواجهة تحالف آخر تكرّس عملياً مع انهيار الخطوط الحدودية لتنظيم «داعش» بين سوريا والعراق.
بوكر وشطرنج
على هذا الأساس، فإنّ ترامب يبدو مستعداً للرهان على كل شيء، أو إلقاء “الصولد” في لعبة البوكر التي يخوضها في الشرق الأوسط أمام لعبة الشطرنج التي يتقنها فلاديمير بوتين.
هذا «الصولد» الأميركي يدفع ترامب إلى المخاطرة حتى بالعلاقات القائمة بين الولايات المتحدة وحلفائها التاريخيين في أوروبا الذين أبدوا رفضهم للقرار بشأن القدس، أو حتى لدى حلفاء إسلاميين وعرب (غير خليجيين)، وفي مقدّمتهم تركيا التي تشكل اليوم رأس حربة الهجوم الإسلامي على خطوة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، أو حتى مصر، التي برغم إرباكها الدبلوماسي، تنتظر اليوم الفرصة للتحرّر من القيد الأميركي من خلال الاندفاع، ولو بحذر باتجاه روسيا، وهو ما يمكن قراءته من خلال الاتفاقات الضخمة التي تستعد القاهرة لإبرامها مع موسكو، إن على مستوى الطاقة النووية او حتى البروتوكولات الأمنية التي يمكن من خلالها أن تصبح الأراضي المصرية قاعدة لسلاح الجو الروسي.
انطلاقاً مما سبق، فإنّ قرار ترامب بشأن القدس يبدو مقدمة لمرحلة جديدة من الصراع الدولي على الشرق الأوسط بعد 15 عاماً على الغزو الأميركي للعراق، وثمانية أعوام على ما سمّي «الربيع العربي» الذي كانت من بين أهدافه الرئيسية إضعاف الدول المركزية في الوطن العربي، مع التشديد على هدف موضعي يتمثل في تدمير الدولة السورية باعتبارها الشوكة الأخيرة في حلق «السلام الأميركي».
واذا كانت الولايات المتحدة قد كسبت جولة غزو العراق في العام 2003، وخسرتها في الانسحاب المدوّي في العام ٢٠١١، فإنّ كسبها جولة «الربيع العربي» في العام 2011، سرعان ما انقلب فشلاً ذريعاً، مع بدء التدخل الروسي في سوريا العام 2015… وانطلاقاً من ذلك، يمكن القول إن قرار ترامب الأخير بشأن القدس يتجاوز المدينة المحتلة نفسها، فهو يضع اللبنة الأولى لجولة جديدة، لا تبدو فرص الانتصار فيها مؤكدة للولايات المتحدة، فالسنوات الماضية أفرزت موازين قوى جديدة، لم يعد ممكنناً معها أن تخاض المعركة أميركياً سوى بخيارات انتحارية جنونية.
Leave a Reply