القدس تجمع اللبنانيين
برغم الانقسامات الحادة بين القوى السياسية اللبنانية حول العديد من الملفات الداخلية والقضايا الخارجية، إلا أن مصيبة الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل جمعت اللبنانيين بمختلف انتماءاتهم، بعدما التقوا على رفض القرار الأميركي المتهور.
وكان لافتاً للانتباه أن «القوات اللبنانية» و«حزب الكتائب»، المنخرطين في خط «14 آذار»، اعترضاً أيضاً على القرار الأميركي وأطلقا مواقف ضده من على منبر مجلس النواب خلال جلسة استثنائية عقدها تضامنا مع القدس بدعوة من الرئيس نبيه بري، وذلك برغم أن خيارات هذين التنظيمين تتناغم عموماً مع السياسات الأميركية، خصوصا حيال «حزب الله» وحلفائه الإقليميين.
لقد بدا واضحاً أن خطيئة دونالد ترامب أحرجت الكثيرين من أصدقاء أميركا وحلفائها بقدر ما استفزت كل خصومها وأعدائها، بحيث ظهر الرئيس الأميركي معزولاً وشبه وحيد في مواجهة معظم العالم الذي لم يستطع هضم الجرعة الزائدة من الخفة والفجور في قرار «الكاوبوي السياسي».
وليس خافياً أن لبنان سيكون من بين المرشحين لدفع ثمن مغامرة دونالد ترامب، باعتباره يستضيف في المخيمات مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين الذين لن يتمكنوا من العودة إلى وطنهم، حتى وفق مفهوم الدولتين الذي تؤيده السلطة الفلسطينية ودول محور الاعتدال العربي، إذ أن تجيير كل القدس إلى الاحتلال الإسرائيلي يضرب كلياً فرص إقامة دولة فلسطينية مستقلة على أراضي الـ67 وعاصمتها القدس الشرقية كما يلحظ مشروع التسوية الذي ينادي به بعض العرب، وبالتالي لن تكون هناك فرصة واقعية لعودة أي من اللاجئين.
وقد استحوذت قضية القدس على اهتمام الأوساط السياسية والشعبية في لبنان، قياساً إلى الخطر الداهم الذي يعكسه موقف ترامب. وعليه، فإن اللبنانيين وجدوا أنفسهم معنيين مباشرة بالتصدي لتداعيات القرار الأميركي التي ستصيب في الصميم المصالح العليا لدولتهم وتوازناتها الدقيقة، إذا لم يساهموا، ضمن الجهد العربي والإسلامي المفترض، في تعطيل مفاعيل هذا القرار العبثي.
ومع تسجيل مروحة واسعة من الحراك في الشارع اللبناني تعاطفاً مع القدس ونصرة لها، من الضاحية الجنوبية لبيروت حتى محيط السفارة الأميركية في منطقة عوكر شرق العاصمة، إلى جانب اعتصامات ومسيرات في مناطق عدة.. يمكن القول إنه ثبت بالعين المجردة، أن كل محاولات التعبئة المذهبية خلال سنوات الابتلاء بالمشروع التكفيري في المنطقة، لم تنجح في حرف الصراع عن وجهته الأصلية وطرد فلسطين من الوجدان، برغم بعض المؤشرات المعاكسة التي تبين في لحظة الحقيقة أنها لم تتجاوز حدود الفطريات العائمة على سطح الجلد.
عندما غابت القضية المركزية لبعض الوقت، انتعشت ثقافة التحريض المذهبي التي ملأت الفراغ وشوهت الأولويات واستبدلت الأعداء ونهشت المجتمعات، لكن ما أن ارتكبت الإدارة الأميركية خطيئة تجاوز الخط المقدسي الأحمر حتى استقام منطق التاريخ مجدداً، واستعادت الجغرافيا نبضها الواحد من المحيط إلى الخليج.
كان يكفي لشرارة واحدة كتلك التي أطلقها ترامب أن تعيد تأجيج المشاعر الصافية حيال فلسطين وأن تلهب الشارعين اللبناني والعربي، بعدما ظن كثيرون أن زمن القضية الأصلية قد ولّى، وأن عصر الجاهلية السياسية سيسود طويلاً.
ظل البركان خامداً، إلى أن عبث به الرئيس الأميركي الذي يقود الولايات المتحدة من على صهوة حصان الكاوبوي. دفعة واحدة، خرجت حمم الغضب من أفئدة الشوارع العربية، وصولاً إلى الضاحية، بعدما توهمت واشنطن وتل ابيب أن سكونها يشجع على استباحة مقدساتها.
بري: إنه احتلال جديد
وفي سياق التشاور، اتصل الرئيس نبيه بري برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وقال له أن قرار ترامب هو بمثابة احتلال جديد للقدس، وإجازة للاستمرار في الاستيطان، ونصحه بتعزيز الوحدة الفلسطينية التي باتت «أكثر من ملحة» في هذا الظرف، رداً على الموقف الأميركي.
وقال بري لـ«صدى الوطن» إن المقاومة هي الخيار الأفضل في مواجهة اعتراف ترامب بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي المحتل، لافتاً الانتباه إلى أن هذا الخيار هو الوحيد المجدي، وليس أي إجراء آخر. ويتابع: «كم نحتاج في هذه المرحلة إلى استعادة الكلام الشهير للامام السيد موسى الصدر الذي كان قد وجهه إلى ياسر عرفات، وفيه أن القدس تأبى أن تتحرر إلا على أيدي المؤمنين».
وعند سؤال بري عما إذا يعتقد بأنه يجب على الدول العربية الحليفة لواشنطن أن تقطع علاقاتها الدبلوماسية معها، يجيب: لو كان الأميركيون يعلمون أن لدى العرب الجرأة أو القدرة على قطع تلك العلاقات، ما كانوا أصلاً ليتخذوا هذا القرار. ويضيف معلقاً على الوضع العربي المزري: «بسبب الوادي المنخفض، يبدو الجبل أكثر ارتفاعاً».
ويلفت رئيس مجلس النواب اللبناني الانتباه إلى أن القدس تعني المسلمين والمسيحيين على حد سواء، كونها تحوي أهم مقدساتهم الدينية، وبالتالي فإن الجميع مُطالب بالتحرك لنجدة القدس، مشدداً على ضرورة اعتماد النفس الطويل في الاحتجاج والاعتراض، لئلا تكون الهبَة الحالية مجرد فورة عابرة، يعود بعدها الشعور بالاسترخاء. وينبه بري إلى أن قرار ترامب يأتي في سياق التمهيد لتنفيذ «صفقة العصر» التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، على قاعدة سحب مدينة القدس من التفاوض.
Leave a Reply