القرار الذي إتّخذته الحكومة اللبنانية، الأسبوع الماضي، بـ«النأي بالنفس»، عن التدخل في شؤون الدول، لاسيما العربية منها، لا يدخل فيه الابتعاد عن الصراع العربي–الإسرائيلي، أو التخلي عن فلسطين كقضية مركزية للعالم العربي، بالرغم من محاولات لأطراف لبنانية كانت تدعو إلى تحييد لبنان عن المواجهة مع العدو الإسرائيلي، واعتماد سياسة «قوة لبنان في ضعفه»، التي ابتدعها مؤسس حزب «الكتائب» بيار الجميّل، في وقت كان عميد «الكتلة الوطنية» ريمون إدّه، يطالب بنشر قوات دولية في الجنوب، لمنع إسرائيل من الاعتداء على لبنان، إلى أن طرح البعض أن صداقات لبنان الدولية تحميه من الأطماع الصهيونية.
لم ينفع الحياد
إلا أن كل طروحات الحياد لم تنفع لبنان، لا بل أضرّت به أكثر ممّا لو كان شريكاً مع دول المواجهة في الحرب العربية–الإسرائيلية، حيث صُنّف من الدول المساندة لا المواجهة، ولم توفره الدولة العبرية باعتداءاتها منذ العام 1967، إثر هزيمة الأنظمة العربية وجيوشها في حرب 5 حزيران من ذلك العام، حيث تحوّل لبنان إلى أرض للمقاومة أقامت فيها المنظمات الفلسطينية قواعد لها، لاسيما منظمة «فتح» التي تمركزت عناصر منها في منطقة العرقوب في الجنوب المحاذية لفلسطين المحتلة في شبعا وكفرشوبا والهبارية وكفرحمام وراشيا الفخار ومحيط هذه البلدات والقرى، وتحوّل لبنان إلى دولة مواجهة تنطلق منه العمليات الفدائية، وتُطلق من أرضه الصواريخ على المستوطنات الصهيونية في الجليل الأعلى.
حقوق الفلسطينيين
ولقد فرضت المسألة الفلسطينية على الواقع اللبناني، إذ يعيش نحو ٤٠٠ ألف فلسطيني في 12 مخيماً داخل لبنان، وهؤلاء حُرموا من حق العودة إلى أرضهم بموجب قرار الأمم المتحدة رقم 194، فاضطروا إلى حمل السلاح لتحرير أرضهم وتأمين حق العودة بعد هزيمة الأنظمة العربية وتحمّل لبنان عبء القضية الفلسطينية، كما الأردن الذي منع قيام قواعد في أرضه، بعد أن تحوّل «غور الأردن» على حدود الكيان الصهيوني إلى منطقة عمليات للمقاومة الفلسطينية، منعت السلطات الأردنية من تحقيق ذلك.
وفي كل المبادرات والاتفاقات التي جرت، كانت ثلاثة مواضيع رئيسية خارج البحث ومتروكة للمفاوضات النهائية، وهذا ما حصل في «اتفاق أوسلو» الذي وُقّع بين رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، ورئيس الحكومة الإسرائيلية إسحق رابين بحضور الرئيس الأميركي بيل كلينتون في أيلول عام 1993، واعتبار قضايا القدس وحق العودة وحدود الدولتين ووقف الاستيطان وقضم الأراضي، هي نقاط خلاف رئيسية، فأعطي الفلسطينيون حق إدارة شؤونهم تحت اسم «السلطة الفلسطينية»، ولم يتمكن المفاوضون الفلسطينيون والإسرائيليون، خلال جولات التفاوض من التوصل إلى اتفاق حول هذه القضايا، لأن إسرائيل كانت ترفض التنازل عن القدس كعاصمة أبدية لها، كما لم تقبل بعودة اللاجئين، بل كانت تطرح توطينهم في أماكن إقامتهم في الدول التي نزحوا إليها، وهذا ما كان يعرقل ما سمي «عملية السلام»، التي تنازلت فيها منظمة التحرير الفلسطينية عن ميثاقها الوطني، واعترفت بدولة إسرائيل، على أن تقوم دولة فلسطين على الضفة الغربية وغزة، أي حدود العام 1967، والتي لم تنسحب منها إسرائيل بموجب «اتفاق أوسلو»، بل خرجت من غزة عام 2004 تحت ضربات المقاومة.
المشاريع الأميركية
وكان لبنان مع كل مشروع أميركي للمنطقة، أو محاولة حل للصراع العربي–الإسرائيلي، وقضيته فلسطين، يتأثر سلباً. وكانت ساحته تتحوّل إلى صراع داخلي أو اقتتال الآخرين عليها بدماء اللبنانيين، هذا ما حصل مع «مشروع إيزنهاور» للوقوف بوجه المد الشيوعي في منتصف خمسينات القرن الماضي، ثم بعد حرب العام 1967، عندما تحوّلت أرضه إلى قواعد عسكرية للمقاومة الفلسطينية، حيث طُرح مشروع روجرز للسلام، وتسبب بمعارك بين الجيش اللبناني والفصائل الفلسطينية المسلحة، وتطور إلى حرب داخلية مع مشروع هنري كيسنجر الذي تضمن توطين الفلسطينيين في لبنان، الذي سقط، مع تزايد الوجود الفلسطيني المسلح الذي اجتثته اسرائيل باجتياحها لمنطقة جنوب الليطاني في العام 1978، بعد زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس وتوقيع معاهدة «كامب ديفيد» للسلام برعاية أميركية، ثم تقديم الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان مشروعه للسلام الذي مهد للغزو الصهيوني للبنان عام 1982.
الهدف كان طرد منظمة التحرير الفلسطينية منه وفرض اتفاق سلام على لبنان، أي ما عُرف بـ«17 أيار» الذي أسقطه الوطنيون اللبنانيون في عهد الرئيس أمين الجميّل وظهور عصر المقاومة التي حررت لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، وفرضت معادلة جديدة في المنطقة أسقطت فيها معادلة «السلام مقابل الأرض»، التي ظهرت في مؤتمر مدريد الذي لم يحقق شيئاً، سوى اتفاقات سلام منفردة كـ«أوسلو» و«وادي عربة».
الشرق الأوسط الجديد
ومع تعثر «عملية السلام» وسطوع نجم المقاومة ومحورها من إيران إلى سوريا فلبنان وفلسطين، رسم «المحافظون الجدد» في الإدارة الأميركية مطلع الألفية الجديدة مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، هو نسخة عن مشروع شيمون بيريز رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، ويقوم على تفتيت المنطقة بعد نشر الفوضى فيها، وإطلاق «ثورات ملونة» في دولها، وكان نصيب لبنان «ثورة الأرز» في العام 2005 التي استندت إلى قرار مجلس الأمن الدولي 1559 الذي يطالب بانسحاب القوات السورية ونزع سلاح الميليشيات (حزب الله)، ولما فشل «ثوار الأرز» بذلك، كان القرار الأميركي بشن حرب على لبنان صيف 2006، لتدمير ترسانة المقاومة الصاروخية، بعد أن كانت القوات السورية انسحبت قبل عام تحت تأثير اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فلم ينجح هذا المشروع الأميركي في لبنان، فانتقل إلى دول أخرى تحت مسمى «ثورات الربيع العربي»، وكان الهدف سوريا.
قرار ترامب
وفي سياق الضعف العربي، جاء قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتنفيذ قرار إتخذه الكونغرس الأميركي عام 1995، بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس وقد أرجأ رؤساء أميركيون سابقون تنفيذه، إفساحاً في المجال لإبقاء «عملية السلام» قائمة، وللاتفاق حول القدس بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حيث جرى تقديم اقتراح باعتبار منطقة «أبو ديس» -وهي إحدى ضواحي القدس وقريبة منها- عاصمة لدولة فلسطينية مقترحة دون أن تكون حدودها عام 67، بل جرى تقليصها وزيادة الكتل الاستيطانية فيها وقضم الأراضي وإقامة جدار فاصل بين المناطق.
هذه المماطلة الإسرائيلية في تنفيذ اتفاق أوسلو، والاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين تحت شعار حل الدولتين، جاء قرار ترامب ليختم المفاوضات النهائية، باعتبار القدس عاصمة تاريخية وواقعية لإسرائيل، ويكون بذلك وضع القضية الفلسطينية أمام مسار آخر، حيث حرّك قراره الشعوب العربية عموماً والشعب الفلسطيني خصوصاً للتحرّك ضد هذا القرار اللاحقوقي، والذي يشبه وعد بلفور الذي أعطت بريطانيا لليهود أرضاً في فلسطين لا يملكونها واستولوا عليها منذ العام 1917 بشراء الأراضي وارتكاب المجازر وتهجير السكان، إلى أن تمّ تكريس الاغتصاب في العام 1948 بعد حرب تقهقرت فيها الجيوش العربية.
تداعيات القرار على لبنان
سيكون للقرار الأميركي الذي اتّخذه ترامب تداعيات على لبنان، كما في كل القرارات الأميركية السابقة، وأخطرها مشروع توطين الفلسطينيين فيه وهو المشروع المطروح في كل «مبادرات السلام»، بعدم تطبيق القرار الأممي «194» الذي صدر قبل 70 سنة، لضمان حق العودة للاجئين، ولكنه لم يطبق من قبل المجتمع الدولي قط، وانفجر في لبنان حرباً أهلية، إلا إن اللبنانيين تحصنوا من مخاطر طرحه من جديد، بأن ورد في الدستور الذي أقره اتفاق الطائف برفض التوطين والتقسيم.
وهذه المرة، تنبّه المسؤولون اللبنانيون لما يمكن أن يتركه قرار الرئيس الأميركي عليهم، فتوحّدوا على رفضه، فكانت مواقف لرئيس الجمهورية ميشال عون أكدت على أن القدس هي عاصمة فلسطين ولا يمكن تهويدها، وأن قرار ترامب مخالف للقرارات الدولية. كما عقد مجلس النواب اللبناني جلسة استثنائية نددت فيها جميع الكتل النيابية -بما فيها «القوات اللبنانية»- بالقرار الذي يصفّي القضية الفلسطينية ويزور التاريخ ومكانة القدس التي ترمز إلى تفاعل الرسالتين المسيحية والمحمدية، بوجود كنيسة القيامة والمسجد الأقصى، حيث يقوم الصهاينة بالحفر تحته، بحثاً عن آثار النبي سليمان، وإعلان أن القدس هي عاصمتهم التاريخية، في حين سكنها الكنعانيون قبل آلاف السنين وأسموها أورشليم مدينة السلام.
الوحدة الوطنية
من كلمة وزير الخارجية في «الجامعة العربية» بالقاهرة، إلى موقف رئيس الجمهورية في منظمة التعاون الإسلامي في اسطنبول، اجتمع اللبنانيون على مختلف طوائفهم ومذاهبهم وقواهم الحزبية والسياسية، على رفض سلخ وتهويد القدس، وهم في هذا المكان، لم ينأوا بأنفسهم عن قضية وجودية تمثل خطراً عليهم بأرضهم ومياههم، وتتمثل بالمشروع الصهيوني التوسعي الاستيطاني الذي ستعمل المقاومة على إجهاضه نصرة للقضية المركزية المرتبطة عضوياً بضرورة حق عودة النازحين الفلسطينيين إلى وطنهم.
لم تؤثر السنوات السبعون التي مرت على قيام الكيان الصهيوني الغاصب، من أن تبقى فلسطين في البال والذاكرة والوجدان، حتى للجيل الثالث الذي وُلد بعد نكبة العام 1948 أو نكسة العام 1967 أو «اتفاق أوسلو» قبل ربع قرن.
لقد تم التعبير عن أن فلسطين مازالت حية في التظاهرات التي خرجت في لبنان ودول أخرى، إلا أن الانتفاضة التي انطلقت من داخل الأراضي المحتلة في العام 1948 أو 1967، هي التي يقع الرهان عليها، في أن تبدأ حرب تحرير شعبية من داخل فلسطين، وفي النموذج اللبناني المقاوم تجربة حية بالرغم من اختلاف المكان والزمان والظروف، إلا أن في غزة مثال، حيث تبقى الضفة الغربية بحاجة إلى سلاح، فهل يتوفر ويكون بداية نهاية إسرائيل؟
Leave a Reply