في بعض الأحيان، تسوق لي الصدفة الجميلة كتاباً، حين أقرؤه يُخيّل إليَّ أنّه كتاب من أجلي أنا وحدي. أتابع قراءته بمتعة، وأدرك من أول وهلة أني عثرت على كتاب نادر من تلك الكتب التي تنظّم أفكاري المشتتة، وأجد الكلمات والأوصاف لمعانٍ وأحداث مبهمة أحسُّ بها ولا أفهمها تماماً، وحين أفرغ منه، أشعر بالفعل أن العالم يبدو مختلفاً.
«تاريخ لبنان الحديث – من الإمارة إلى اتفاق الطائف»، بقلم فواز طرابلسي, هو من أمهات كتبه العديدة، كما أنه واحد من تلك الكتب القليلة المختارة التي وجدت فيها نوعاً من الكتابة لم تعهده الصحافة من قبل. كنت أقرأ مقالات طرابلسي في صحيفة «السفير» كلمّا تسنّى لي ذلك. لكن بدا لي في كتابه هذا، جَمعُهُ بين الجرأة العظيمة والعمق الفلسفي والسرد التاريخي في أسلوب قد يبدو بسيطاً في ظاهره ولكنه مفعم بالدلالات التاريخية الواضحة في غموض تاريخ لبنان الحديث في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
ينطلق الكتاب بالإضاءة على تأسيس إمارة جبل لبنان أوائل الحكم العثماني، وصولاً إلى وضع الكيان اللبناني على الخريطة في الشرق، حتى لا يبقى مجرَّد جبل معلّق فوق البحر، محاولاً ضم خضرته إلى بياض وزرقة البحر الأبيض المتوسط، في صراعات ومناوشات لا تنتهي بين الدروز والمسيحيين، بين الإقطاع والعامة، بين الغنى والفقر، وبين التملّق للولاة وقلة الإخلاص للوطن. تهترىء السلطنة العثمانية، والقوى الأوروبية تتقاسم الشرق. وبدءاً من 1914 تبدأ خريطة القوى بالتغيّر وتؤدي إلى صياغة نهائية في العام 1920 للبنان الكبير حيث يضم قبائل وألوية وزعامات وقطاعات في تناغم، تزيده غنىً، ولكن دقتها تزيده عطباً وهشاشة. لبنان البلد الذي نجا من الأتراك واستقلّ عن الفرنسيين، وجد نفسه مثل لاعب متفوق وذكي يريده كل فريق لنفسه. وفوق الكل هناك فريق إضافي جديد، يتصرّف وكأن بريطانيا وفرنسا أصبحتا مجرد عناوين في كتب التاريخ المدرسي. وفي العام 1958 يرسل الأميركيون أسطولهم إلى بيروت خوفاً من المد الناصري الذي راح يهدد بعض دول المشرق العربي.
«لبنان الكبير» الذي ولد كملاذ للأقليات القادمة من تركيا والعراق وفلسطين واليمن و… لبنان الذي ضُمّت إليه أربعة أقضية، أخفق كدولة تضيق بأهلها ونجح كنظام قادر على تحمل مواجع جيرانه.
اللافت في الكتاب، أن لبنان بقي أفضل من كل الفوضى التي أحاطت به. بيروت كانت درة الشرق بمرفئها ومطارها ومطابعها. في القرن الماضي بدا لبنان أكبر وأجمل وأعقل من اللبنانيين. الناس يحكمها مبدأ «كما تكونون يولَّى عليكم». أيضاً إن الناس تجن معاً، وتصيبها السفاهة معاً وتستخف معاً، عندما لا يعود ممكناً التمييز بين الرأس والقطيع. لذلك كان لا بد من كسر لبنان المزدهر اقتصادياً وفنياً واجتماعياً، لأن عدواه خطرة، فهو نقيض لدولة إسرائيل الدينية، ويفضح أحادية الدول العربية التي تتظاهر بتوحيد الله في السماء وتذوب في توحيد الحاكم والحزب على الأرض.
وكانت المأساة الكبرى سنة 1975 وتحول كل شيء إلى عبث في مواجهة طغيان زعماء متناطحين بالرؤوس وانفلات زعران الحروب والمتشددين طائفياً وإلغاء الآخر وطرده بدل قبوله والعيش معه. وبذلك تحول لبنان إلى بلدٍ فقد الرحمة وفقد ماضيه وفقد علّة وجوده بين أمم الشرق. ينتهي الكتاب بأن الحديث لا يفيد في شيء سوى أنه يغلف مرارة الحاضر بشيء من جماليات ما قد مضى.
بصراحة، كتاب فواز طرابلسي، «تاريخ لبنان الحديث»، وجدت فيه فصلاً آخر من فصول المرارة العربية وعبث لبنان وهو مثال صارخ على ضياع الأجيال اللبنانية ووطن متميز بالحرية والإبداع، ربما إلى الأبد. رغم فساد معظم زعماء لبنان وحكامه وفساد بعض العائلات فيه، كان لبنان أكثر دول العالم العربي ازدهاراً نسبياً عندما قرر بعض الأشقاء العرب وسواهم من دول الغرب، تحديداً بريطانيا وفرنسا، ومؤخراً أميركا، أنه يجب تدمير نظامه الاقتصادي رغم أنه كان مكاناً لجامعاتهم ومنها تخرج معظم حكامهم، وبمساعدة الفاسدين وزعماء الصدفة هتفوا ضده ووصموه بالإمبريالية وبذَنَب الإستعمار. ضاعت فلسطين ثم سيناء والجولان وبكت القدس، فقرروا استردادها من جنوب لبنان وتحويل بيروت إلى هانوي. كان ذلك سهلاً لأن العناد والكيد من خطايا الكثير من زعماء لبنان وليسا من مزاياهم. هل الاستعادة ممكنة؟ الرحمة على الشهداء وذوي النيات الحسنة وكبار القلوب.
قراءة الكتاب علمتني أشياء عديدة كانت ضبابية، وفسرت لي أحداثاً كنت في حيرة بين كذبها وصدقها. وقد تميّز الأستاذ فواز طرابلسي، وهو اليساري الليبرالي والأستاذ في الجامعة الأميركية ببيروت، وتفوق على نفسه في سرد الوقائع التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية معاً من إمارة جبل لبنان حتى اتفاق الطائف.
Leave a Reply