«الفتنة هُزمت»…
بهذه العبارة الحاسمة وضع قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء محمد علي جعفري حدّاً لكل الرهانات على تكرار السيناريو السوري في الجمهورية الإسلامية، والذي تبارى الكل على التبشير به، من دوائر السياسة في الولايات المتحدة الأميركية، مروراً بصبية البلاط الملكي في السعودية، وصولاً إلى من يسمون «شيعة السفارة» على امتداد الوطن العربي.
هلوسات
بدت التغريدات الغزيرة لدونالد ترامب، بشأن «دعم حرية الشعب الإيراني»، واللعاب السائل من فم بنيامين نتنياهو لـ«التطبيع مع الشعب المسالم»، مجرد هلوسات تضاف إلى هلوسات مدمني شبكات التواصل الاجتماعي، الذين بلغت مخيّلتهم حد استخدام صورة ممثلة إباحية أميركية –من أصل لبناني– لتحويلها إلى «أيقونة» شبابية إيرانية تطالب بحريّتها!
أمّا الحديث الاستباقي لمحمد بن سلمان، قبل أشهر، عن «نقل المعركة إلى الداخل الإيراني»، فقد جاءت أحداث الأسبوع الثاني، وما رافقها من وعي جماعي لدى الشعب الإيراني، لتصيبه في ثاني انتكاساته، بعد الانتكاسة الأولى التي عجز فيها ولي العهد السعودي المتهور عن استخدام الورقة «الداعشية» ضد الجمهورية الإسلامية، بعد رد الفعل الهادئ والسريع من قبل أجهزة الأمن الإيرانية تجاه هجمات طهران.
توافق داخلي
على هذا الأساس، فإنّ الهدوء الذي استعادته مدن طهران، منذ يوم الثلاثاء الماضي، يشي بأن ثمة توافقاً عاماً في إيران على عدم حرف الحراك الشعبي ذي المطالب الاقتصادية–الاجتماعية المحقّة، عن مساره، على النحو الذي أراده البعض عبر تحويل مطالبه باتجاه شعارات مناوئة للثورة الإسلامية.
هذا التوافق العام، بات واضحاً على المستوى الشعبي العام، وهو ما عبّر عنه الحذر الشديد الذي أبدته فئات اجتماعية متعددة، بما في ذلك الفئات الأكثر فقراً، إزاء أعمال العنف التي شابت الاحتجاجات المعارضة للسياسات الاقتصادية التقشفية المعتمدة من قبل الرئيس حسن روحاني، وفق وصفات نائبه للشؤون الاقتصادية إسحق جاهانغيري.
كذلك، فإنّ هذا التوافق العام، جعل طرفي الصراع السياسي الداخلي في الجهورية الإسلامية –الإصلاحيين والمحافظين– ينتهجون مقاربة شبه موحدة تجاه الأزمة الأخيرة، وهو ما عكسته مواقف متقاربة من قبل المعكسرين الكبيرين المهيمنين على الحياة السياسية في إيران، والتي زاوجت بمعظمها بين الإقرار بالمطالب المحقّة التي تحرّك على أساسها الشباب الغاضب في مشهد وباقي المدن الإيرانية، وبين التحذير من أعمال العنف والمؤامرة الخارجية والتصويب على الثوابت الأساسية للجمهورية الإسلامية، بما في ذلك تلك المرتبطة بالسياسة الخارجية.
هذا الأمر عبّر عنه بيان شديد الرمزية أصدرته مجموعة الإصلاحيين التي يقودها الرئيس الأسبق محمد خاتمي، والتي تحلقت حول المرشح الخاسر مير حسين موسوي في أحداث العام 2009، وقد جاء فيه حرفياً تنديد واضح وصريح بـ«مثيري الاضطرابات الذين استغلوا التجمعات والاحتجاجات السلمية لتدمير الممتلكات العامة وإهانة القيم الدينية والوطنية المقدسة»، و«أعداء الشعب الإيراني اللدودين، وفي مقدمهم الولايات المتحدة وعملاؤها الذين يدعمون ويشجعون مثيري الاضطرابات والاعمال العنيفة، ما يثبت الخداع الكبير لأولئك الذين يدعون الدفاع عن الديمقراطية والشعب الإيراني».
هزيمة الفتنة
على أيّ حالٍ، فإنّ مجريات الأيام الخمسة المضطربة في إيران، ختمها إعلان اللواء جعفري عن «هزيمة الفتنة»، ما يعني أن السيناريوهات–المخططات الأكثر تطرّفاً قد تلاشت، ولكن ذلك لا يعني خروج إيران من دائرة الأزمة الأشمل، المرتبطة بالوضع الاقتصادي المتفاقم، والذي لا تقتصر أسبابه على السياسات الداخلية، بل تتعداها إلى عامل خارجي يتمثل في انخفاض سقف التوقعات من الانتعاش الاقتصادي الذي كانت الحكومة الإيرانية تراهن عليه بعد توقيع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة 5+1، والذي كان يفترض بموجبه أن يُرفع الحظر بشكل تدريجي عن الاقتصاد الإيراني.
هذا الأمر تعثّر بسبب سياسة التصعيد التي انتهجتها الولايات المتحدة، سواء في عهد الرئيس السابق باراك أوباما أو الرئيس الحالي دونالد ترامب، اللذين أصرّا على تصعيد الضغوط الاقتصادية على الجمهورية الإسلامية من خلال فرض مزيد من العقوبات والحظر على تأشيرات السفر، مع العلم بأنّ ترامب يستعد للكشف عن مزيد من الإجراءات الضاغطة على الجمهورية الإسلامية خلال الأيام القليلة المقبلة.
أزمة وفرصة
وانطلاقاً من ذلك، فإنّ النهاية السريعة للاضطرابات قد تشكل فرصة للقيادة الإيرانية –بجناحيها الاصلاحي والمحافظ– لاتخاذ إجراءات سريعة تحصّن الجبهة الداخلية في مواجهة ما تتعرض له البلاد من استهدافات خارجية.
ويكتسب الشق الاقتصادي في هذا الإطار، العنوان الأول لإدارة الأزمة الشاملة، وهو يتمحور حول خمسة مشاكل أساسية، هي البطالة وضعف القوة الشرائية والفساد وضعف العملة الريال وعدم المساواة في توزيع الثروة بين المناطق في إيران.
ووفقاً للأرقام الحكومية فإنّ مستوى البطالة في البلاد بلغ نحو 12.5 بالمئة، وتصل إلى أكثر من 23 بالمئة للفئة العمرية الشابة، لكن بعض التقديرات غير الرسمية تشير إلى ارتفاعها بين الشباب في بعض المناطق إلى 45 بالمئة .
كذلك، فقد هبط سعر صرف العملة المحلية من 36,000 إلى 42,900 ريال مقابل الدولار الأميركي، خلال عام واحد.
هذه المعطليات الاقتصادية ربما تتطلب من الرئيس حسن روحاني تعاملاً جدّياً وسريعاً مع المطالب الملحّة على المستوى الاقتصادي–الاجتماعي، على غرار التراجع عن الإجراءات التقشفية المدرجة في الموازنة الأخيرة للدولة، والتي تشمل اقتطاعات للمساعدات الاجتماعية وزيادة أسعار الوقود.
ومعروف أنه بعد توليه الحكم في العام 2013، ألغى روحاني سياسات سلفه محمود أحمدي نجاد المالية والنقدية التي كانت تتسم بالإسراف ليحد من نظام الإعانات النقدية التي كان يحصل عليها الإيرانيون من أبناء الطبقة المتوسطة والفقيرة. وأصبح مثل هذا التقشف يثير استياءاً متزايداً بين الإيرانيين، حيث لا يزال الاقتصاد يواجه صعوبات على الرغم من إنهاء العقوبات، فيما لا تزال مصارف وشركات أجنبية كثيرة تحجم عن إبرام صفقات مع إيران، لأسباب من بينها أن الاتجاه المتشدد للرئيس الأميركي دونالد ترامب حيال طهران يعرقل التجارة والاستثمار.
ولكنّ مسؤولية العلاج لا تقتصر على روحاني وفريقه الإصلاحي، فثمة دور لا بد أن يلعبه المحافظون، لجهة توفير الفرصة أمام الحكومة الحالية لمعالجة مشكلة الفساد التي يشكو منها الجميع، وهو أمر يتطلب مقاربة جديدة للصراع السياسي، الطبيعي بين الفريق الإصلاحي ومراكز القوى المرتبطة بالمحافظين، بما في ذلك الحرس الثوري، والتي تسيطر وفقاً لبعض التقديرات على ما يزيد عن 60 بالمئة من الأصول في إيران.
ولعل الكلمة الفصل في هذا الأمر تبقى عند المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي، القادر وحده على التوفيق بين التناقضات للوصول إلى الصيغة الأمثل لإدارة الأزمة الحالية، والتي تتفاوت التقديرات بشأنها بين نظرة تشاؤمية تنظر بعين الريبة إلى إمكانية التوصل لتوافق بين النخبة الحاكمة بشأن الملف الاقتصادي، وبين نظرة متفائلة ترى أن ما جرى خلال الأيام الماضية، وما تتعرض له الجمهورية الإسلامية من ضغوط خارجية، سيدفع المعسكرين الاصلاحي والمحافظ إلى البحث عن قواسم مشتركة وتقديم تنازلات متبادلة تحصن البلاد أكثر فأكثر من النزعات العدوانية الخارجية العابرة للحدود والقارات، والتي تتمحور قراراتها حول مجنون يحكم من واشنطن… ومراهق يحكم من الرياض.
Leave a Reply