أزمة حول الدستور ومفهوم إدارة الدولة
شهدت نهاية العام ٢٠١٧، تعكيراً للاستقرار السياسي، لا بل للوفاق السياسي الذي التأم على رفض استقالة الرئيس سعد الحريري من السعودية في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، والتي انتهت تداعياتها يوم الاستقلال، لتبرز خلال الأيام التالية أزمة ما سمي بـ«دورة العماد ميشال عون»، أو دورة الضباط الذين تخرجوا في العام 1994، بعد أن كانوا دخلوا إلى الكلية الحربية عام 1990، في أثناء ترؤس عون للحكومة العسكرية، وتمرّده على اتفاق الطائف والشرعية التي أفرزها انتخاب الرئيس إلياس الهراوي بغطاء دولي وإقليمي أنهى الحرب الأهلية في لبنان وأعاد توحيد المؤسسات بعد أن أزال المتاريس وحلّ الميليشيات الحزبية، ليلتحق عناصر منها في الكلية الحربية في إطار استيعابها.
الدورة تعود
والدورة التي أعلن عن التحاقها بالجيش في العام 1990، تمّ تسريح عناصرها باعتبارها حصلت في زمن تمرّد عون الذي خرج من القصر الجمهوري في 13 تشرين الأول من العام نفسه، إلا أنه وبعد تعيين العماد إميل لحود قائداً للجيش، ومباشرته بدمج المؤسسة العسكرية لتوحيدها بعد سنوات من الانقسام والتشرذم بين الطوائف وأحزابها وميليشياتها، أعطيت فرصة لتلاميذ هذه الدورة بالالتحاق مجدداً بالكلية الحربية، فانضم 190 بعد أن سافر آخرون أو التحقوا بأشغال ومهن أخرى.
هذه الدورة أُنصفت بالسماح لعناصرها، أن يتخرجوا بعد عام ونصف عام من تدريبهم في الكلية الحربية، ليتخرجوا في العام 1994، وقبل عام من دورة «الميليشيات» التي سميت بـ«الانصهار الوطني»، وكانت الأمور تسير بشكل طبيعي لجهة الترقيات، والحصول على الأقدميات، ممن قام بعمل باهر في الجيش، حيث نال العديد من «دورة عون» ودورات أخرى، أقدميات، دون أي اعتراض، إلى أن أنتخب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية.
توقيع وزير المال
مع مرور عام على انتخاب العماد عون، واقتراب موعد الترقيات في المؤسسة العسكرية والقوى الأمنية، وهي تجري مع مطلع كل عام جديد بشكل عام، قرّر رئيس الجمهورية منح أقدمية سنة لضباط الدورة التي سميت باسمه، ورأى أنه ووفق المادة 47 من قانون الدفاع يمكن لرئيس الجمهورية أن يصدر مرسوماً بمنح أقدمية مع توقيع رئيس الحكومة، ولا حاجة لتوقيع وزير المال وفق المادة 54 من الدستور، وهذا ما ترك الوزير علي حسن خليل يتحفظ على ما قام به الرئيس عون الذي لم يمتثل للدستور، في وقت نكث رئيس الحكومة سعد الحريري بوعده لرئيس مجلس النواب نبيه برّي، بأنه لن يوقع على المرسوم إذا لم يكن مقترناً بتوقيع وزير المال، الذي يعتبره الرئيس برّي أنه بات ملزماً في العرف، أن يكون التوقيع موجوداً، بما يمثل على مستوى الطائفة الشيعية وجوباً للميثاقية، وهو ما رفضه العماد عون، وأكّد على أن وزارة المال، كما كل الوزارات الأخرى ليست حكراً على طائفة أو مذهب، وقد تداول على وزارة المال وزراء من طوائف عدة، فأسندت إلى رئيس الحكومة رفيق الحريري وهو سنّي، الذي سمى فؤاد السنيورة وزير دولة للشؤون المالية وتابع هو وزارة المال لمدة ست سنوات، ليخلفه الوزير جورج قرم في حكومة الرئيس سليم الحص في أول عهد الرئيس إميل لحود، وهو من الطائفة المارونية، ليأتي بعده الوزير جهاد أزعور في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وهو ماروني، ثمّ عيّنت ريا الحسن وهي سنّيّة في أول حكومة للرئيس سعد الحريري، ليعين الوزير محمد الصفدي السنّي وزيراً للمال في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، ثم علي حسن خليل وهو شيعي في حكومة الرئيس تمام سلام، ويبقى في الحكومة الحالية مع الرئيس سعد الحريري، وقد سبق أن عيّن إلياس سابا الأرثوذكسي في حكومة الرئيس عمر كرامي بعد التمديد للرئيس لحود نهاية عام 2004.
خلاف عون–برّي
هذا التجاذب حول توقيع وزير المال، أدّى إلى نشوب خلاف بين الرئيسين عون وبرّي، الذي ترك لحكمة رئيس الجمهورية أن تعالج الموضوع، وتبقي على الوفاق الداخلي، لا بل الوحدة الوطنية التي واجه بها لبنان، أزمة استقالة الحريري.
إلا أن الرئيس عون تعاطى مع المسألة، في سياق مساعيه لاستعادة صلاحيات رئيس الجمهورية والدستور، ليؤكد أنه الرئيس القوي، معتبراً المرسوم الذي وضعه مع الرئيس الحريري نافذاً، و«مَن لديه إعتراض فليذهب إلى القضاء».
هذا الكلام الذي قيل من على منبر بكركي، استفز رئيس مجلس النواب الذي امتنع عن الكلام يوم عيد الميلاد، ليستدعي الصحافيين في اليوم التالي، ويؤكّد التزامه بالدستور المؤتمن عليه رئيس الجمهورية «الذي عليه أن يقرأ في الكتاب»، وفق توصيف الرئيس فؤاد شهاب للدستور، والذي كان عند كل مشكلة يعلن ماذا يقول الكتاب.
اهتزاز سياسي
هذه التطورات التي نتجت عن مرسوم ضباط دورة 94، والتي كانت مفاجئة للرأي العام اللبناني كما للقوى الحزبية والكتل النيابية، باعتبارها تفصيل بسيط أمام الاستحقاقات الكبرى التي تواجه لبنان. غير أن الاهتزاز السياسي وقع، فتريّث رئيس الحكومة عن نشر المرسوم في الجريدة الرسمية، كي لا يخلق أزمة تؤثر على التضامن الحكومي الذي ظهر بعد استقالته، وهو الحريص عليه، لأنه ضمانة لاستقرار لبنان، كما للحركة الاقتصادية. فأعلن الحريري أنه سيعمل على حل الإشكال الدستوري في وقت يؤكد رئيس الجمهورية أنه «خلاف سياسي» مع الرئيس برّي، ليس حول القضايا الاستراتيجية، بل على مفهوم إدارة الدولة. إذ تغيب الكيمياء بين الرجلين منذ سنوات، وزاد الجفاء في الاستحقاق الرئاسي، حيث أيّد الرئيس برّي ترشيح النائب سليمان فرنجية، وامتنع عن انتخاب عون رئيساً للجمهورية بوضع ورقة بيضاء.
محطات خلافية
سبق أن حصل تباعد بين عون وبرّي، في انتخابات عام 2009 في قضاء جزين، كما في زحلة عندما تبنى «التيار الوطني الحر» ترشيح النائب السابق حسن يعقوب، كما في موضوع التمديد لمجلس النواب الذي رفضته «كتلة الإصلاح والتغيير» وقدمت طعناً أمام المجلس الدستوري، وهذا ما رفع من منسوب الخلاف بين التنظيمين السياسيين، دون أن يتدخل «حليف الحليف» (حزب الله) الذي كان يحاول ومن وراء الستارة لجم التصعيد بينهما، تاركاً للوقت أن يحل الخلاف بينهما، كما في موضوع النفط الذي حصلت تسوية بين الجانبين، بأن يبدأ التنقيب عنه من بلوكين اثنين «4» في الشمال و«9» في الجنوب، بعد أن كان الرئيس برّي يطالب العمل بكل «البلوكات العشرة»، فيما طالب الوزير جبران باسيل أن يبدأ العمل بـ«البلوك 4» قرب البترون.
أزمة المرسوم إلى أين؟
انطلق العام الجديد، والأزمة باقية، والفتاوى الدستورية تصدر من هنا وهناك. وقد بدأ يبرز القلق على المؤسسة العسكرية من أن تتأثر بهذا التجاذب السياسي وتتخلخل وحدتها الداخلية، حيث تداولت الأخبار أن امتناع الوزير الخليل عن التوقيع سببه أن الضباط في غالبيتهم ينتمون إلى الطائفة المسيحية، وهو اتهام رفضه وزير المال، مؤكداً أن «الخلاف دستوري»، وأن توقيعه على المرسوم إلزامي.
الحلول المطروحة
لا أزمة في لبنان تنتهي من دون تسوية. وغالباً ما يكون الخلاف حول قضية ما ستاراً لمطلب آخر غير معلن، يراد المقايضة عليه. وقد باشر الرئيس الحريري جهود التسوية بسلسلة اتصالات، لإيجاد المخرج المناسب، بحيث يحفظ حق كل السلطات دون المساس بصلاحية أي مرجع تحت سقف الدستور. ويجري البحث بأن يتم إصدار مرسوم بأقدمية لدورات 94 و95 و96، من دون تأثير على الهرمية في المؤسسة العسكرية، بالتوازي مع مقترح حل يفضي إلى أن يُعرض المرسوم على مجلس الوزراء ويوافق عليه، وتستخدم المادة 54 من الدستور، فيوقع عليه رئيسا الجمهورية والحكومة والوزير المختص مع وزير المال، لأن المرسوم الذي وقّعه الرئيس عون مع الرئيس الحريري عليه توقيع وزير الدفاع، بينما خلا من توقيع وزير الداخلية مع وجود ستة ضباط من قوى الأمن الداخلي، وهو ما يشكّل مخالفة دستورية وفق الرئيس برّي، الذي أكّد بأن الأمور تعود إلى نصابها، إذا ما جرى تطبيق الدستور، ثم كان على رئيس الجمهورية أن يشاور الرئيس برّي، بقضية الضباط، ويأتي له بالحل.
لا تصعيد
لن يؤثر المرسوم المذكور على سير عمل الحكومة التي أمامها خلال الأشهر الأربعة الأولى من السنة الجديدة، مهمة التحضير للانتخابات النيابية التي ستقام في أيار (مايو) القادم، وهو استحقاق يفرض نفسه كأولوية على جدول أعمال القوى السياسية والحزبية التي بدأت استعداداتها.
واقعياً، لا يمكن أن تشل الحكومة التي يؤكد رئيسها، أن الاستحقاق الانتخابي هو الذي يتطلع إليه اللبنانيون بعد تعطيله لخمس سنوات، ولا بدّ من متنفس ديمقراطي لإحداث تغيير في التركيبة القائمة تحاكي تطلعات الشباب.
ويعلن رئيس «تيار المستقبل» في لقاءاته الشعبية التي بدأ بها حملته الانتخابية، أنه يمكن الفصل بين مرسوم الأقدمية لضباط 94، وسير عمل الحكومة، وعودة الأوضاع إلى طبيعتها، وذلك عبر إزالة التشنج السياسي الذي نشأ عن هذا المرسوم، فيما لا يبدو أن الرئيسين عون وبرّي في وارد التصعيد، حيث مازال «الخلاف تحت السيطرة»، بين الردود والردود المضادة تحت سقف الدستور والاحتكام إليه، إذ ثمة آراء متناقضة بين الأطراف حول هذه القضية ومبرراتها الدستورية والسياسية.
Leave a Reply