هل تتحمل واشنطن تداعيات إخراج العفريت من القمقم؟
في الظاهر يبدو الأمر محاولة يائسة من جانب الجماعات الإرهابية في سوريا للانتقام من روسيا. وأما في الباطن، فثمة أهداف أكثر خطورة، وتتجاوز ميدان الحرب السورية، وتتعدّاها، مع تعدّد أطرافها إلى بعد استراتيجي بوابته إعادة خلط الأوراق مجدداً.
كان اليوم الحادي والثلاثين من كانون الأول (ديسمبر) الماضي، رمزياً بامتياز، فهو ختام عام، أراده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يشكل الخاتمة للعملية العسكرية الروسية في سوريا، بعدما حققت أهدافها المنشودة خلال عامين.
هجوم منتصف الليل
بعد منتصف ليل ذلك اليوم، كانت مجموعة مسلحة تطلق قذائف هاون باتجاه قاعدة حميميم في اللاذقية، وهي واحدة من نقطتين احتفظت بهما روسيا لتواجد طويل الأمد، بناء على اتفاق مع الحكومة السورية.
كانت النتيجة مقتل أربعة جنود، في هجوم مريب، قالت جهات عسكرية واستخباراتية روسية، إنه لم يكن ليتم دون حصول المجموعة المنفذة على إحداثيات من الجانب الأميركي.
ومع أن الاتهامات الروسية لأجهزة الاستخبارات الأميركية في سياق كهذا ليست بالجديدة، وهو ما يدفع البعض إلى اعتبارها مجرّد أداة من أدوات الحرب الإعلامية بين موسكو وواشنطن، إلا أن تركيز وسائل الإعلام على تلك الحادثة، واعتبارها بداية حرب استنزاف ضد الجيش الروسي في سوريا، أظهر بعضاً من الأهداف التي تعيد التذكير بلعنة أفغانستان، حتى بلغ الأمر حدّ الترويج لمعلومات، عبر صحيفة روسية «كومرسانت» تشي بأن الهجوم الذي استهدف حميميم لم يكن عادياً، إذ أدى إلى تدمير عدد من الطائرات، وهو ما نفته وزارة الدفاع الروسية بشدّة.
بطبيعة الحال، كان متوقعاً أن تسارع القيادة العسكرية الروسية إلى اتخاذ مزيد من الإجراءات الوقائية حول القاعدة الجوية في حميميم، والقاعدة البحرية في طرطوس –والتي شملتها اتفاقية التشغيل الطويلة الأمد بين الحكومتين الروسية والسورية– من خلال تعزيزها بمنظومات دفاعية، بما في ذلك تفعيل وضعية الاستعداد لمنظومة «أس 400»، فخر الصناعات العسكرية الروسية.
الرد السريع
وأمّا في الميدان، فلم يتأخر الرد الروسي كثيراً، حيث صدرت الأوامر بتكثيف الضربات الجوية ضد المجموعات المسلحة في إدلب، وهي المتهم الرئيسي في عملية استهداف حميميم، ومن بينها مجموعة متشددة تدعى «أجناد القوقاز»، فيما كان الجيش السوري وحلفاؤه، يطلقون هجوماً كبيراً لاستعادة السيطرة على مناطق عدّة، في ريفي إدلب وحماه، حقق نتائجه الأولية، في الزحف إلى مطار أبو الضهور العسكري بعد انهيار آخر دفاعات «جبهة النصرة» فيه، وهو تطوّر ميداني يجمع المراقبون على أنه لا يمكن أن يحصل دونما ضوء أخضر وغطاء روسي، لا سيما أن منطقة عملياته مشمولة، نظرياً، باتفاقية خفض التصعيد.
عند هذا الحد، بات واضحاً أن سياسة اللعب بالنار مع الجانب الروسي لا تجدي نفعاً، لا بل تنقلب مزيداً من الخسائر الاستراتيجية في الميدان.
وبلغة المنطق، فإنّ اختباراً كهذا، وما استتبعه من رد فعل روسي، كان ينبغي أن ينتهي عند ذلك الحد، بدلاً من تصعيد إضافي، سرعان ما اتخذ شكلاً أكثر خطورة، بعد أيام قليلة، حين هاجمت أسراب من الطائرات من دون طيّار، والمفخخة بالمتفجرات، قاعدتي حميميم وطرطوس.
وبالرغم من أن الهجوم لم يحقق اهدافه التدميرية، بعدما نجحت منظومات الدفاع الجوي الروسية من تدمير الطائرات المهاجمة، واعتراض عدد آخر منها، إلا أن ما جرى يثير تكهنات بشأن الجهة التي تقف حول هجوم على هذا القدر من الخطورة، وتطرح تساؤلات عدة حول الأهداف العسكرية والسياسية من هذا التصعيد غير المسبوق.
موسكو تحذر
بطبيعة الحال، لا تحتاج روسيا إلى الكثير من الأدلة للكشف عن وجود بصمات أميركية خلف الهجوم الجوي على قاعدتي طرطوس واللاذقية، وهي لا تبدو مقتنعة بمحاولة الولايات المتحدة غسل يديها من هذا التصعيد الخطير، لا بل أن رسائل تحذير بدأت تخرج من موسكو بشأن خطورة «إخراج العفريت من القمقم».
ولعلّ ملابسات الهجوم الجوي الظاهرة تكشف الكثير عن الدور الأميركي المحتمل وراء ما جرى، وهي تتمحور حول شق عسكري–تقني وآخر سياسي–استراتيجي.
في الجانب العسكري–التقني، لا تُقنع موسكو تحليلات خبراء أميركيين بأن الجماعات الإرهابية باتت قادرة على امتلاك طائرات من دون طيار، وتطويرها بحيث تصبح قادرة على امتلاك قدرة تدميرية.
في الحقيقة، ثمة شيء من الصحة في تلك التحليلات العسكرية، فالطائرات من دون طيار باتت تجارتها غير مركزية، بحيث يمكن الحصول على بعض أنواعها بمجرّد الدخول إلى مواقع الشراء عبر شبكة الانترنت، وهي متاحة للجمهور على امتداد العالم، كما أن بالإمكان إجراء بعض التعديلات السهلة عليها، لتحويلها إلى أغراض عسكرية، تماماً كما فعل «داعش» في بعض ميادين القتال في سوريا والعراق.
ولكن تلك التحليلات لا يمكن تطبيقها بأي شكل من الأشكال على الهجوم الجوي الذي استهدف القاعدتين الروسيتين، بحسب ما يرد خبراء عسكريون روس، فكل انواع الطائرات من دون طيار المتوافرة للجمهور، لا يمكنها التحليق لمسافة تتجاوز الخمسين كيلومتراً، خاصة إذا ما تمّ تحميلها بالمواد المتفجرة، علاوة على أن نظام التموضع العالمي («جي بي أس») المستخدم في هذا النوع من الطائرات، يمنعها من التحليق في المناطق المصنفة «حمراء»، والتي تتراوح بين بعض الشوارع والنقاط الحساسة في العواصم العالمية، إلى القواعد العسكرية على اختلاف مستوياتها، في كل دول العالم، وهو أمر يدركه أي شخص يستخدم طائرات الـ«درون»، وحتى الهواة منهم.
يعني ذلك أن ثمة جهة خارجية تمتلك قدرات عسكرية قد زوّدت المجموعة المسلحة التي نفذت الهجمات بطراز من الطائرات أكثر تطوّراً من الطائرات المسيّرة، وساعدت، بطبيعة الحال، على اختراق كودات التشفير الخاصة بنظام التموضع العالمي، وهو أمر من الصعب جداً –لا بل من المستحيل– أن يتم بتقنيات محلّية.
الطائرات من إدلب
علاوة على ما سبق، فإنّ التحقيقات الأولية، التي أجرتها وزارة الدفاع الروسية، والتي نشرتها عبر صحيفتها الخاصة «كراسنايا زفيزدا» (النجمة الحمراء)، أظهرت أن الطائرات المهاجمة، انطلقت من محافظة إدلب بالذات، من قبل جماعة مسلحة مصنّفة ضمن «المعارضة المعتدلة»، المعروف ارتباطها بالأميركيين، فيما تتردد معلومات في وسائل الإعلام الروسية عن تحليق طائرة استطلاع أميركية في منطقة القاعدتين الروسيتين تزامناً مع الهجوم الجوي الفاشل، ما يدفع إلى الاعتقاد بأن ثمة إحداثيات كانت يزوّد بها المسلحون لتلك الغاية.
ما سبق يفتح الباب للحديث عن الشق الثاني من أدلة الاتهام، وهو ما ينفّذ بدوره على الأهداف الاستراتيجية والسياسية وراء المحاولتين الأخيرتين، لاستزاف الجيش الروسي.
لماذا حميميم وطرطوس؟
وفي هذا الإطار، فإنّ اختيار قاعدتي حميميم وطرطوس هدفاً للهجومين، ينطويان على دلالة استراتيجية، باعتبارهما من بين المكاسب الكبرى التي خرجت بهما روسيا من حملتها العسكرية في سوريا، وتأكيداً ثابتاً على استمرارية التحالف الروسي–السوري، لعقود طويلة.
بذلك، يمكن فهم الرسالة التي يحملها الهجوم الاول الذي نفذ بقذائف الهاون على قاعدة حميميم، والهجوم الثاني الذي كان يستهدف القاعدة ذاتها وقاعدة طرطوس، ومفادها أن ثمة جهة خارجية –والمعني الأول بذلك الولايات المتحدة– تحاول أن تقول لروسيا إن تواجدها في سوريا غير آمن، وقد يجر عليها ويلات مماثلة لويلات التدخل السوفياتي في أفغانستان في ثمانينيات القرن المنصرم.
وأمّا اختيار إدلب بالذات منطلقاً لتنفيذ الهجومين، كما تبدّى من التحقيقات الروسية، فيعني من الناحية العملية، صباً للزيت على النار من خلال استدراج الجيش الروسي –وبطبيعة الحال الجيش السوري– إلى الرد في تلك المنطقة التي يفترض تثبيت نظام خفض التصعيد فيها، وفق التفاهمات الروسية–الإيرانية–التركية في أستانة وسوتشي.
وكان ذلك واضحاً من خلال عودة إدلب إلى نقطة مواجهة عسكرية بعدما سارعت روسيا إلى الرد جواً باستهداف المجموعات التي قامت باستهداف جنودها، في حين عمد الجيش السوري إلى الرد براً، بهجوم كبير وواسع مكّنه من بسط سيطرته على عشرات القرى والبلدات من تلك المحافظة التي كانت حتى الأمس القريب المحافظة الوحيدة الخارجة عن سيطرته.
التسويات مهددة
ومن شأن ذلك أن يؤدي، بطبيعة الحال، إلى تزايد احتمال بتقويض التسويات التي تم التوافق عليها بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان خلال القمة التي جمعتهما بجانب الرئيس الإيراني حسن روحاني قبل أسابيع، وبالتالي تفجير المفاوضات المرتقبة في سوتشي في نهاية كانون الثاني الحالي، أوحتى مسار أستانا برمّته، ما من شأنه أن يعيد خلط الأوراق في الصراع السوري لصالح الدفة الأميركية.
ولكنّ الامر ليس بالسهولة التي يبدو أن بعض مخططي السياسات في الولايات المتحدة مؤمن بها، انطلاقاً من كاتالوغات الحرب الباردة المعروفة، فالرد الروسي على الهجومين، سواء على المستوى الدفاعي (تفعيل المنظومات التي ساهمت في احباط الهجوم الجوي)، أو على المستوى البري (العملية الكبرى التي بدأها الجيش السوري في إدلب)، يؤكد مجدداً أن روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفياتي في الثمانينيّات، ما يعني أن «تعويذة افغانستان» لن تنفع مع صواريخ «أس 400»… وغيرها.
وأما تركيا، وبرغم تذبذب موقفها، فمن المستبعد أن تنجرف بدورها إلى الفخ الجديد الذي ينصبه الأميركيون، فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان غير مستعد اليوم للتضحية بتسوية سياسية–عسكرية تحمي أمنه القومي أمام الأكراد في عفرين، وإن كان يعتبر إدلب من مناطق النفوذ التركي في الشمال السوري، علاوة على أن الوقت لم يفت كثيراً لكي ينسى تداعيات التصعيد مع الروس، قبل عامين، حين غامر بإسقاط مقاتلة «السوخوي» في أجواء الحدود السورية–التركية.
بوتين: نعرف من قام بالهجوم
أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الخميس الماضي أن تركيا لا علاقة لها بالهجوم بالطائرات المسيّرة على الأهداف العسكرية الروسية في سوريا، مضيفاً أنه بحث الأزمة السورية هاتفياً مع نظيره التركي رجب طيب إردوغان.
ووفق ما أودرته وكالة «رويترز» فإن إردوغان أبلغ بوتين في الاتصال بينهما، بــ«ضرورة توقف هجمات النظام السوري على إدلب والغوطة من أجل محادثات سوتشي وأستانا».
ووفق الكرملين فقد أشار بوتين فى حديثه مع إردوغان إلى «ضرورة تكثيف الجهود لمحاربة الإرهابيين بعد الهجوم على حميميم».
الرئيس الروسي قال أيضاً إن موسكو «تعرف من قام بالاستفزاز عبر محاولة الهجوم على قاعدتي طرطوس وحميميم»، معتبراً أن ما جرى في «محاولة للاستفزاز ولتقويض العلاقات مع الشركاء وبينهم تركيا».
بوتين رأى أن محاولة الهجوم المذكورة «مخطّط لها والأجهزة المستخدمة فيه كانت مموهة».
وكانت هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية، قد كشفت عن نتائج تحليل الطائرات بدون طيّار التي استخدمها المسلحون لمهاجمة قاعدة حميميم الروسية في سوريا قبل أيّام، مشيرة إلى التوصّل إلى عدة استنتاجات.
وقال مدير قسم بناء وتطوير منظومة استخدام الطائرات بدون طيّار في هيئة الأركان الروسية، اللواء ألكسندر نوفيكوف، إن عملية التحليل توصلت إلى عدة استنتاجات، أولها أنه «تستحيل صناعة طائرات بدون طيار من هذا النوع محلياً. وأثناء تصميمها واستخدامها أشرك خبراء تلقوا تدريباً خاصاً في بلدان تصنّع وتستخدم منظومات الطائرات بدون طيار».
وأوضح أن القطع لتجميع طائرة بدون طيار يمكن شراؤها بحرّية، لكن تجميع الطائرة واستخدامها يتطلب تدريباً خاصاً وخبرة في هذا المجال.
وبخصوص الذخيرة التي استخدمت في الطائرات المذكورة، أكد نوفيكوف أنها عبارة عن عبوات ناسفة محلية الصنع تزن 400 غرام، مزودة بكرات معدنية، تصيب أهدافاً على بعد يصل حتى 50 متراً.
وأشار كذلك إلى أن الإحداثيات التي تضمنتها برامج التحكم للطائرات التي هاجمت المواقع الروسية، تزيد دقة على تلك التي يمكن الحصول عليها من مصادر مفتوحة.
وأكدت الدراسات أن إطلاق الطائرات بدون طيار حصل من مكان واحد، وكانت إحدى الطائرات مزودة بكاميرا لرصد سير توجيه الضربات، وتصحيح المسار في حال الضرورة.
وأوضحت وزراة الفاع أنّ الهجوم الذي وقع على قاعدة طرطوس البحرية، ليل الجمعة السبت في 6 كانون الثاني (يناير) الجاري، شاركت فيه 3 طائرات مسيرة، بينما شاركت 10 طائرات مسيّرة بالهجوم على قاعدة حميميم الجوية ليل السبت الأحد.
كما لفتت إلى أنّ طائرة استطلاع أميركية كانت في منطقة حميميم لحظة هجوم الإرهابيين بواسطة طائرات مسيّرة على قاعدتَيْ حميميم وطرطوس الرّوسيّتَيْن في سوريا.
Leave a Reply