لا شك أنَّ كتاب «نار وغضب» لمؤلفه مايكل وولف يشكِّل أكبر إدانة وفضيحة يتعرَّض لها رئيس تلفزيون الواقع دونالد ترامب منذ إطلالته السياسية، بسبب كشفه للأسرار المعروفة في بيت «رئيس الصدفة» وإدارته المتعثِّرة.
وبالرغم من أنَّ الكتاب سلط الضوء على تفاصيل دقيقة وعميقة وجعل من ترامب إمبراطوراً بلا ثياب، وكان من حسناته أنَّه فرط عقد الحلف بين الموتور الذي يعتبر نفسه ممثل اليمين البديل، ستيڤ بانون، وبين ترامب (مع أنَّ هذا لن يغيِّر من مواقف الأخير اليمينية المتطرفة)، إلا أنَّ الكتاب سيكون مصيره مثل أغنية فيروز «لا تندهي ما في حدا». فالشعب الأميركي أصبح اليوم «متمسِحاً» جلده أكثر من الشارع العربي النائم نوم أهل الكهف هذه الأيام.
الشعب العربي هذا لم تهزُّه عملية اغتصاب القدس من جديد ولا خيانات بني سعود ولا مجازرهم في اليمن والبحرين ولا تآمرهم في سوريا والعراق ولبنان وأخيراً في قطر. بل أن هذا الشعب العربي لم يأبه لقيام ترامب المعادي للمسلمين والعرب وباقي الأقليات بنهب ثروات الأمة علناً وبتواطؤ مكشوف من سلمان وابنه المتحالف مع العدو الإسرائيلي!
فترامب سينفض ريشه من الكتاب–الفضيحة بسرعة طالما أن قاعدته هي أسوأ منه وكل ما يصدر عنه من عجائب وغرائب تشيب شعر الرأس لا يعبأ بها المعجبون به حيث أنَّ حسابه على «تويتر» فقط يقرأه ٤٥ مليون متابع! تماماً مثل مستوطني الكيان الإسرائيلي حيث الرأي العام هناك أكثر تطرفاً وخبثاً من زعمائه.
من يصدِّق أنَّه لو عاد الزمن إلى الوراء 20 أو 30 عاماً قد ينتخب الأميركي سياسياً ولأعلى منصب في البلاد، بعد نشر «أشرطة هوليوود» التي تطرق فيها الملياردير المرشَّح ترامب بشكل سوقي نزق مع إعلامي أرعن إلى كيفية إغواء النساء بشهرته؟ فكلنا نذكر أنَّ السناتور غاري هارت كان للوهلة الأولى من الممكن أن يصبح رئيساً للولايات المتَّحدة عام 1988 عندما شق طريقه كمرشح رئيسي في الانتخابات الأولية للحزب الديمقراطي وكاد يتفوق على نائب الرئيس آنذاك وولتر مونديل لولا كشف علاقته الغرامية مع دونا رايس ممَّا حمله على وقف حملته الانتخابية!
كل ما قام به ترامب من قوانين مضرة بمصلحة الولايات المتَّحدة من إلغاء اتفاقية المناخ الدولية والإتفاقيات التجارية العالمية ومعاداة ثلاثة أرباع زعماء العالم، وفرض حظر على دخول المسلمين إلى الولايات المتَّحدة ومحاولة بناء جدار مع المكسيك ووقف الحماية المؤقتة لمواطني السلفادور ومحاولة ترحيل «الحالمين» من أميركا وحتَّى وقف الهجرة الشرعية التي تشكِّل العمود الفقري لاقتصاد وحيوية المجتمع الأميركي، وتشجيعه للقوميين البيض وتهكمه على الأقليات والنساء وذوي العاهات، بالإضافة إلى ردوده الصبيانية الانفعالية وطيشه ووضعه النفسي غير المستقر حسب خبراء علم النفس خصوصاً أنَّه يتحكّم بالشيفرة النووية (ليس هناك زر صغير أو كبير بل شنطة أرقام نووية) عدا عن تبذيره لأموال الخزينة الأميركية من خلال إصراره على زيارة منتجعاته السياحية الخاصة في فلوريدا ونيويورك ونيو جيرزي. كل هذا وغيره من قائمة طويلة من الخروقات لم تستثر حفيظة الأميركيين ولو أنَّ واحدة من هذه المخالفات ارتكبها أحد الرؤساء السابقين لأصبح في مصحَّة عقلية بسبب قيام ثورات عارمة عليه. من يذكر فضيحة أوراق البنتاغون السرية و«ووترغيت» أيام الصحافة الاستقصائية التي أطاحت برؤوس كبيرة؟ اليوم، الإعلام يجد في تغريدة واحدة لترامب عشرة أكاذيب وخلط حقائق لكنَّه لا يحرِّك ساكناً في الرأي العام!
لسبب ما لا نكتنه سره، يمخر ترامب عباب الفضائح من دون أن يتأثر، لكن لا يجب أن ننكر آثار الكتاب النفسية على صلفه وغروره والذي سيظل يلاحقه طوال عمره، وقد يؤدي إمَّا إلى اتزان معقول في تصرفاته (ولو أنَّ الإتزان في ميزان ترامب هو ليس كباقي الناس) حتَّى نهاية ولايته المشكوك بأمرها إذا لم ينهها روبرت ميولر بمحاكمة الرئيس المتهوِّر، وإمَّا يؤدي إلى زيادة رعونته وخرقه لأنَّه لا يحتمل النقد فيضع البلاد على كف عفريت.
ما يهمنا نحن من كل ذلك هو أنَّ ترامب قد يحاول تهريب أزماته الداخلية وفوضى إدارته إلى السياسة الخارجية التي تبقى أفضل تمويه يستخدمه أي رئيس لصرف الأنظار عن أزمات الداخل. فترامب للتو جعل من السياسة الخارجية لإدارته رديئة جدَّاً تترأسها الحرباء السيخية الصهيونية في الأمم المتَّحدة نيكي هايلي التي لا تمانع من تقبيل أحذية اللوبي الإسرائيلي لإرضاء طموحها السياسي.
سياسة ترامب متهورة لدرجة أن الإتِّحاد الأوروبي تمرَّد مجتمعاً عليه خصوصاً فيما يتعلَّق بإيران والملف النووي. وقد أعلم الاتحاد ترامب أنَّه غير معني بالعقوبات التي سيفرضها على إيران وهذه سابقة في العلاقات بين القارتين.
خطورة سياسة ترامب، التي يمكن أن يكون هو نفسه متفرجاً عليها بدليل رفضه قراءة تقرير ولو من صفحة واحدة (بينما يحرص على مشاهدة التلفاز معظم الصباح ويبدأ دوام عمله عند الحادية عشرة)، الخطورة تكمن في إمكانية الصدام مع القوات الروسية في سوريا حيث القوات الأميركية هناك يبدو أنها تعمل للأسف على حماية جبهة «النُصرة» المحتضرة التي تسبَّبتْ بقتل 5000 مواطن أميركي. وسبب هذا الكلام هو شن طائرات «درون» على مطار حميميم السوري الذي توجد فيه قاعدة روسية واتهام موسكو لواشنطن بالتغطية لها عبر الأقمار الإصطناعية، كما أنه لا يملك هذا النوع من الطائرات المتطورة إلا إسرائيل وأميركا.
لكن رب ضارةٍ نافعة، فكما لم ينفع الخط الأحمر الأميركي في منطقة التنف من تقدم القوات السوريَّة وحلفائها نحو الحدود العراقية، لن تنفع استماتة واشنطن في إعادة إحياء الجماعات التكفيريَّة ولن تفت في عزيمة الجيش السوري في تحرير المناطق القريبة من حدود تركيا، بعد أن فُقد الود بين الحليفين التاريخيين التركي والأميركي بسبب تسليح الأكراد شمال سوريا. كما أنَّ قرار ترامب حول القدس تسبَّب بابتعاد الأردن عن بني سعود وحتَّى عن واشنطن حيث ذكرت تقارير إعلامية عن مشادة قوية بين الملك عبدالله الثاني وبن سلمان.
سياسات ترامب الداخلية والخارجية لن تلق إلا النَّار والغضب وستحرق أي إرث سياسي له قد يحصل عن طريق الخطاً التاريخي، مثل رئاسته!
Leave a Reply