من المعروف أن اللغة هي وسيلة التفاهم بين أفراد المجتمع الذي يتعاطى تلك اللغة، فهي هوية المتحدثين بها من حيث كونها مصدر اعتزازهم وتقديم شخصيتهم إلى المجتمعات الأخرى، إذ تنطوي كل لغة على خصائصها، فهي عنوان الوجود والهوية التي تحدد ملامح الناطقين بها باعتبارها الوعاء الذي يكتنز ذاكرة تاريخهم ومقومات انتمائهم، وأقتصر هنا حصراً على لغتنا العربية بين أبناء جاليتنا التي حط بها المآل إلى هذا المنقلب الذي نحياه في المغترب الأميركي والذي ينسحب بالضرورة على المغتربات الأخرى حول العالم، فالعربي لن يذوب بالكامل في المجتمعات الأخرى حتى لو ولد في بلدانها، أو حصل على جنسيتها، فاللغة هي أساس الهوية العربية، ومنبع التكوين السايكولوجي للشخص العربي.
أوردت هذه المقدمة تعقيباً على ما لفت انتباهي قبل أيام، أثناء زيارة خاصة لي إلى كلية هنري فورد، حيث فوجئت بتجمهر عدد من الطلاب الجدد الذين يرومون تسجيل أسمائهم من أجل تعلم اللغة الإنكليزية كلغة ثانية، وهم في حيرة من أمرهم حول من يستفهمون بشأن طلباتهم. فمعظم الموظفين الحاضرين لا يتكلمون بغير الإنكليزية، وحتى إذا تواجد بعضهم فهم يتنكرون للغتهم الأم ويتظاهرون بجهلهم لنطقها، فخيل إلي أن هذا التصرف إنما يدل على ضعف الشخصية من خلال التهرب من الانتماء للغة التي يتكلم بها آباؤهم وأجدادهم على الرغم من توظيف أنفار من الطلاب اليافعين المنتدبين للتفاهم مع الطلاب الجدد من بني جلدتهم. ولشدة ما أثار استغرابي أن أولئك المعول عليهم لا يتقنون العربية إذ رأيتهم كما لو كنت في بيئة أرمنية –مع شديد اعتزازي بإخواننا الأرمن– حيث يذكرون المؤنث والعكس كذلك عدا عن التلفظ بمفردات لا وجود لها في أية لغة أخرى سوى في القاموس «الخنفشاري».
ماذا يفعل الطالب الراغب بتعلم لغة البلد ولا يجد من يعينه على تخطي العتبات الأولى في هذا الميدان تمهيداً للدراسة أو للعمل الذي يتطلب أيضاً معرفة اللغة الإنكليزية؟
إن معظم الطلاب يدفعون مصاريف تعليمهم ومنهم من يأخذ قرضاً لتسديد رسوم الدراسة، ومن واجب المؤسسات التعليمية، أن تيسر مهمة هؤلاء عبر توظيف عرب ذوي كفاءة لينجدوا من يجهلون اللغة الإنكليزية، ومساعدتهم سواء في الإجابة عن استفساراتهم أو القيام بالترجمة لهم.
وغني عن التعريف بأننا كجالية كبيرة لها كثافتها السكانية وثقلها الاقتصادي وحضورها المعنوي فإن على المؤسسات المعنية العمل على توظيف أصحاب الكفاءات ممن يجيدون اللغتين العربية والإنكليزية سواء في المدارس أو الجامعات أو المستشفيات أو غيرها من المرافق الخدمية.
ولمن يتنكر للغته العربية فعليه أن يتذكر أنها لغة آبائه وأجداده وهي لغة الضاد التي نزل القرآن الكريم بمفرداتها ومعانيها، وهي أقدم اللغات الحية في العالم، وتدرس في الجامعات وتتهافت على تعلمها معظم الشعوب.
إن تعلم لغة ثانية يحصن الفرد ثقافياً ويوسع من مداركه وفرصه خصوصاً في البلد الذي نقيم فيه، كذلك وبحسب القول الشائع «من تعلم لغة قوم أمن شرهم»، كما أن تعلم لغة ثانية هو طريق يفضي إلى ممارسة حياة جديدة والاطلاع على ثقافة جديدة ومعرفة عادات وتقاليد الشعب الذي يتكلم باللغة المعنية، فضلا عن أنها وسيلة للتقارب والتجانس مع الشعوب الأخرى، شرط أن لا يحجب الإنسان لغته الأصلية عن تداولها لأنها تمثل هويته وانتماءه وأصوله التي انحدر منها.
Leave a Reply