إنها «فرصة أخيرة»…
بهذه العبارة روّج دونالد ترامب لقراره الأخير بشأن إيران، عبر تمديد تعليق العقوبات الأميركية المفروضة على الجمهورية الإسلامية في إطار الاتفاق النووي.
يشي القرار، مجدداً، بأنّ الاتفاق النووي بات صداعاً في رأس الرئيس الأميركي الذي بات يجد نفسه بين مطرقة صقور المنظومة الحاكمة في الولايات المتحدة، التي تضغط عليه، بتحريض إسرائيلي واضح، لتنفيذ ما تعهّد به خلال حملته الانتخابية بشأن الاتفاق النووي؛ وبين براغماتيي المنظومة ذاتها، الذين يستشعرون خطر الاندفاع في مغامرة سياسية وربما عسكرية جديدة، في ظل الاهتزاز الواضح في الداخل والتشابك غير المسبوق للملفات في الخارج.
أوروبا والاتفاق النووي
علاوة على التناقض الداخلي في المنظومة الأميركية، فإنّ المواقف الدولية، لم تكن مشجّعة للجناح المتشدد الذي يسعى ترامب لاسترضائه، فالمواقف الأوروبية، على سبيل المثال، باتت أقرب إلى الجناح البراغماتي، وهو ما تبدّى في مواقف واضحة من قبل الفرنسيين والألمان، وحتى البريطانيين، بضرورة التمسك بتسوية فيينا النووية، وإن كان الأمر يتطلب الضغط على إيران عبر فرض عقوبات دولية، تطال برنامجها الصاروخي.
ويبدو أن ترامب نفسه بات يراهن اليوم على الأوروبيين للنزول من على شجرة إلغاء الاتفاق النووي، وذلك عبر موقف مزدوج، من جهة يتمسّك بالاتفاق النووي، ومن جهة ثانية يحاول الحصول على مكاسب إضافية في ما يتعلق بالبرنامج الصاروخي الإيراني، على النحو الذي يمنح الرئيس الأميركي أوراق قوة –ولو محدودة– في مواجهة المعارضين المتربّصين به في الداخل.
ولعلّ الموقف الأوروبي الأكثر تعبيراً عن تلك الوجهة، هو ما أبلغه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عبر التذكير «بأهمية الحفاظ على الاتفاق»، و«بضرورة أن يحترم جميع الأطراف تعهداتهم فيه، مع استمرار «العمل على الجانب البالستي والأنشطة الإقليمية لإيران»، وهو الأمر الذي اقترحته فرنسا في أيلول (سبتمبر) الماضي.
وأمّا الترجمة العملية لكلام الرئيس الفرنسي، فجاءت في مجلس الأمن الدولي حيث تقدمت كل من باريس وبرلين وبريطانيا (وهي من الدول الشريكة في الاتفاق النووي)، بمشروع قرار يتعلق بفرض عقوبات على إيران بسبب ملفها النووي، مشفوعة بعبارة «مع محاولة الأخذ بالاعتبار هواجس كل الفرقاء».
ويبدو من خلال قراءة النص أن «فلسفته» العامة تقوم على استهداف البرنامج النووي والبالستي الإيراني والهيئات التي تشرف عليها والأشخاص الذين يشغلونها، ولكن الكلمة المفتاح لفهم طبيعة الحراك الدبلوماسي المقبل تتمثل في إشارة وزارة الخارجية الفرنسية، عند تقديم مسودة القرار تلك، إلى أنه «لا بد من التزام التروي في هذه القضية».
الموقف الروسي
إنّ الدوائر الدبلوماسية الأوروبية قد تكون على يقين بأنّ تمرير أي قرار يستهدف إيران لن يكون سهلاً، فالموقف الروسي –وخلفه الصيني بطبيعة الحال– واضح تجاه كل ما يحدث، وقد تمّ التعبير عنه بشكل لا لبس فيه، على لسان مساعد وزير الخارجية سيرغي ريابكوف، الذي قال «إننا نتوصل تدريجياً إلى خلاصة مفادها أنّ قراراً داخلياً اميركياً اتُخذ بالانسحاب من الاتفاق النووي أو بات على وشك أن يُتخذ»، واصفاً ذلك بأنه «سيكون أكبر الأخطاء على صعيد سياسة واشنطن الخارجية وسوء تقدير كبير».
علاوة على ذلك، فقد شدد ريابكوف على أن روسيا ستعمل «بشكل مكثّف» مع أوروبا والصين من أجل الحفاظ على الاتفاق، وهي عبارة دبلوماسية تشي في الغالب بأن ثمة مواجهة دبلوماسية روسية تلوح في الأفق، خصوصاً إذا ما رُبط ذلك بإشارة ريابكوف إلى أن «ما سمعناه (من ترامب) لا يتضمن أية دعوة إلى إيران من أجل الحوار… وهو أمر يناقض منطق الاتفاق النووي».
الفرصة الأخيرة
على هذا الأساس، قد تكون «الفرصة الأخيرة» التي وضعها ترامب عنواناً لقرار تمديد تعليق العقوبات على إيران لمدة 120 يوماً مجرد محاولة لكسب الوقت، أملاً بموقف دولي (أوروبي خصوصاً) أكثر دعماً للتصعيد ضد الجمهورية الإسلامية، وربما تفاهماً مع روسيا، قد يتم البوابة السورية، لكي تليّن الأخيرة موقفها، أو على الأقل تحيّد نفسها، وهو أمر بات صعب المنال، في ظل الفرز الواضح في الاصطفافات الدولية الحالية.
وفي جانب آخر، فإنّ كسب الوقت هذا ربما يستهدف تحقيق أمرين: الأول هو تأجيل العاصفة الداخلية، خصوصاً في ظل اشتداد الحملة على ترامب، على خلفية التحقيقات الجارية بشأن التدخل الروسي المزعوم في انتخابات الرئاسة الأميركية الأخيرة واتهامه بالعجز عن أداء مهام الرئاسة؛ والثاني، هو تشديد الضغط على الجمهورية الإسلامية من بوابة الاقتصاد، من أجل الحفاظ على مناخ عدم الاستقرار في التعاملات الدولية معها، من جهة، وترقّب التطورات المرتبطة بالعلاقات الأميركية–الروسية، لا سيما في الميدان السوري، حيث تسعى الولايات المتحدة لتقويض الدور الإيراني–الروسي، عبر عرقلة مؤتمر سوتشي ومحاولة فرض حقائق جديدة على الأرض، من خلال تشكيل قوة عسكرية ضخمة موالية للولايات المتحدة.
ضغوط متجددة
لعلّ هذا ما يفسّر قيام وزارة الخزانة الأميركية بفرض عقوبات جديدة على إيران، تستهدف 14 من الأفراد والكيانات، ولكن هذه المرّة، ليس ارتباطاً بالاتفاق النووي، بل على خلفية ما تصفه الولايات المتحدة بـ«انتهاك حقوق الإنسان».
ويبدو أن تلك الضغوط تحاول تقويض بوادر الأمل التي بدأت تلوح في أفق الاقتصاد الإيراني، لا سيما بعد جرس الانذار الذي قرعه المحتجون على تردي الاوضاع الاقتصادية في التظاهرات الأخيرة، أو بمعنى آخر تمديد حالة الارتياب التي تشكل المكابح لأية اندفاعة اقتصادية من قبل المستثمرين الأجانب في إيران، سواء لتأجيج الغضب الداخلي، أو لإبقاء أوراق ضغط يمكن من خلالها الحصول على تنازلات من الأوروبيين والروس، دون الدفع بالأوضاع إلى حافة الهاوية.
ومع ذلك، فإن تلك السياسة التقليدية –المتجددة– بدأت تفقد بريقها في ظل المتغيرات التي طرأت على العلاقات الدولية، لا سيما بين الولايات المتحدة والأوروبيين، فالهوة بين الطرفين تزداد، وهو ما يتضح في أن ترامب فشل طوال عام كامل في تقويض الاتفاق النووي نتيجة لتحفظ دول مثل فرنسا والمانيا وحتى بريطانيا، التي غالباً ما تتماهى سياساتها مع السياسات الأميركية.
ولا شك أن الأوروبيين ما زالوا ينظرون إلى الاتفاق النووي باعتباره أكبر إنجاز دبلوماسي للسنوات الأخيرة، خصوصاً أن تسوية فيينا أتت لتظهر أن بالإمكان حل نزاعات حقيقية بأسلحة الدبلوماسية، ذات الكلفة البشرية والاقتصادية الضئيلة بمقارنتها مع الوسائل الأميركية، القائمة على الحروب، وهو ما يمكن تعميمه على صراعات دولية أخرى، كما هي الحال في الملف السوري والكوري الشمالي والأوكراني… إلخ.
وفي جانب آخر، فإنّ التحفظ الأوروبي على مغامرات ترامب التصعيدية يجد جذوراً أخرى له في الاقتصاد، خصوصاً حين يتعلق الأمر بفرنسا والمانيا، اللتين تعدّان قاطرتي الاقتصاد الأوروبي، واللتين بادرتا بسرعة إلى اقتناص فرصة الاتفاق النووي للدخول في صفقات اقتصادية مع إيران.
صفقات؟
وبالرغم من أن الضغوط الأميركية ساهمت في كبح الأحلام الاستثمارية لدى الأوروبيين، إلا أن ثمة من يتحدث حالياً عن صفقات تجري علناً وخلف الكواليس، حول تجهيزات صناعية وحقول الطاقة الشمسية ومزارع منتجات الألبان في العامين الماضيين، كما أن الكثير من الشركات الأوروبية التي سارعت إلى عقد اتفاقات استثمارية مع إيران، بعيد تسوية فيينا، لم تعد قادرة على الانسحاب، وستشكل بطبيعة الحال أداة ضغط كابحة على الحكومات الأوروبية لعدم الذهاب بعيداً في مجاراة ترامب في تصعيده.
ومما لا شك فيه أن مصالح شركات مثل عملاق الطاقة الفرنسي «توتال» –التي وقعت عقداً للتنقيب عن الغاز بقيمة 5 مليارات دولار في حزيران الماضي– وكذلك مثل عملاقي تصنيع السيارات «بيجو» و«رينو» –اللذين سارعا إلى فتح مصانع لهما في إيران– قادرة على فرض أجندات مالية أقل عدوانية على الحكومات الأوروبية، وهو ربما ما يفسر تجاهل الحكومة الإيطالية للسياسات الأميركية، بإعلانها عن قرض بقيمة ستة مليارات دولار لمشاريع انمائية في إيران، قبل أيام فقط على الموقف الترامبي الأخير من الاتفاق النووي.
لعلّ ما سبق يدفع إلى الاعتقاد بأن عبارة «الفرصة الأخيرة» صائبة… ولكنها «فرصة أخيرة» لترامب نفسه، قبل أن تكون لإيران!
تمديد «للمرة الأخيرة»: الكرة في ملعب الأوروبيين
قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ١٢ كانون الثاني (يناير) الجاري، تعليق العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران في إطار الاتفاق النووي، ولكن «للمرة الأخيرة» بحسب البيت الأبيض. ويعتزم ترامب في الأشهر القادمة العمل مع الأوروبيين على اتفاق متابعة لتشديد بنود النص الذي تم التوصل إليه عام 2015،.
وقرر ترامب تمديد تعليق العقوبات 120 يوماً، «العمل مع شركائنا الأوروبيين على اتفاق متابعة» بهدف تشديد بنود النص الذي وقعت عليه طهران والقوى الست الكبرى (الولايات المتحدة والصين وروسيا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا).
يترتب على الأوروبيين، وسط المأزق الذي أوقعهم فيه دونالد ترامب، الخروج بطريقة لإنقاذ الاتفاق حول برنامج إيران النووي قبل منتصف أيار (مايو) الماضي، وتشديده بما يكفي لتهدئة واشنطن، ولكن بدون إبعاد طهران، في رهان يبدو صعباً بحسب وكالة الأنباء الفرنسية.
في المقابل، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات جديدة لا ترتبط مباشرة بالبرنامج النووي الإيراني، تستهدف 14 من الأفراد او الكيانات الإيرانية بسبب «انتهاك حقوق الإنسان» أو لأنها على صلة بالبرنامج البالستي لطهران.
Leave a Reply