في مئوية ناصر الأولى
في المئوية الأولى لمولده، يبدو أن جمال عبد الناصر مازال شاباً بالقياس إلى زعماء العالم العربي الذين عاصروه أو غابوا من بعده. لم يتجاوزه أحد في المواقع المتقدّمة التي وصل إليها ووسمها دفاعاً عن بلاده وعن العرب والعالم الثالث. مازال السد العالي في أسوان يحمي مصر ويقيها من الفيضان والعطش. مازالت قناة السويس تحت السيادة المصرية وتساهم في دعم الموقع الاستراتيجي المصري في الشرق الأوسط. مازالت الثقافة السياسية المصرية التي انتشرت في عهده تحاصر السفارة الإسرائيلية في القاهرة في حيّز ضيّق وتحول دون الاعتراف الشعبي المصري بشرعية الصهاينة وتطبيع العلاقات معهم. مازالت مصر التي قلبت الصفحة الساداتية، وهادنت طويلاً في عهد مبارك وامتنعت عن الاندماج في مشروع «الربيع العربي» السيّىء الصيت وبالتالي الانخراط في فتنة طائفية مدمّرة للعرب والمسلمين، مازالت مهيّأة لاستئناف الحلم الناصري إذا ما توافرت لها قيادة شجاعة وطموحة.
ويطول الحديث عن الإنجازات الناصرية الأساسية في مجالات التربية والاقتصاد والاجتماع والسياسة الخارجية ولعله يحتاج إلى تفصيل لا يتيحه هذا الحيّز المحدود.
كان الذين يريدون طيّ صفحة جمال عبد الناصر ومازالوا يلجأون للحجج نفسها لتشنيع صورته وشيطنة أدواره فيتحدّثون عن قمع المعارضين في عهده وتعذيبهم والتنكيل بهم ويستندون إلى شهادت أدلى بها سجناء سابقون وهي في مجملها صحيحة لكنها جرت في بدايات حكم ناصر وفي ظروف شديدة الحساسية، علماً أن فترة الحكم الناصرية دامت 15 عاماً فقط ولم تكن مثل هذه الانتهاكات حكراً عليها. فقد شكّلت الولايات المتحدة الأميركية في تلك الفترة محاكم تفتيش لقمع المعارضة اليسارية والزجّ بأفرادها في السجون بدعوى مكافحة الشيوعية وقد عرفت هذه الحركة بـ«المكارثية» والناظر إليها يدرك «قِيَم» تلك الفترة و«أخلاقها السياسية» وظروفها تتعدّى مصر إلى قلب النظام الغربي، وبالتالي ما كان صحيحاً في نظام مصري بالكاد استقر في القاهرة، صحيح أيضاً بالنسبة لأنظمة غربية معمّرة ومتباهية بقِيَم الديمقراطية والحرية وعلى رأسها «زعيمة العالم الحر»..
كان يمكن للديمقراطيات الغربية في تلك الفترة أن تتواطأ وتشترك في خطف وتعذيب واعتقال واغتيال زعيم المعارضة المغربية المهدي بن بركة في باريس، أو تقتل عشرات الآلاف من الجزائريين ومئات اليمنيين وآلاف الأفارقة والآسيويين من دون أن يهبط تقديرها الديمقراطي بوصة واحدة.
كان الذين لعنوا عبد الناصر في العالم العربي ضحايا ثقافة غربية أشاعت قِيَم الديمقراطية والتسامح والمساواة والتعبير الحر، لكن عواصم الغرب كانت خلال الفترة الناصرية تضبط وسائل التعبير وتراقب الأخبار فيمنع وزير الإعلام نشر ما لا يتناسب مع مصلحة الدولة تماماً كما تفعل القاهرة. وهذا يعني أن ظاهرة أحمد سعيد التي انتشرت بعد موت ناصر من أجل التنكيل بالناصرية، كانت ظاهرة شبه عالمية وغربية إلى حد ما في بعض الدول مع فارق أن أحمد سعيد هزم في 5 حزيران (يونيو) 1967 وشُنّع به بينما نظراؤه الغربيون طواهم النسيان بلا تشنيع ولا من يشنّعون.
في هذا السياق تكاد هزيمة حزيران (يونيو) عام 1967 أن تكون ماركة مسجلة باسم جمال عبدالناصر وكأنه الزعيم العالمي الوحيد الذي خسر معركة عسكرية في حرب مستمرة. وكان ندّابو الهزيمة المذكورة يريدون الإجهاز على الناصرية من خلال هذا الحدث الخطير، وذلك على الرغم من انتصار الجيش الناصري في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1973، وبالتالي محو آثار الهزيمة بعد 3 سنوات من وقوعها، بواسطة الجيش الناصري، فنحن نعرف أن الرئيس الراحل أنور السادات احتل موقعاً هامشياً في الإدارة الناصرية وبالتالي ما كان بوسعه اختراع انتصار «أكتوبر 73» بعيد غياب الزعيم المصري.
لقد اندلعت الحرب المذكورة بتدبير من الجيش الناصري وبتخطيط من عسكريين عيّنهم جمال عبدالناصر قبل وفاته، وبالتالي لا يستوي القول بأن هزيمة حزيران 67 ناصرية، ونصر أكتوبر 73 ساداتي، علماً أن إدارة السادات للحرب انتهت إلى تقزيم الانتصار وصولاً إلى اتفاقيات كامب ديفيد التي أطلقت رصاصة الرحمة على الدور الإقليمي لجمهورية مصر العربية.
ولعلّ الدكتور الراحل صادق جلال العظم قد لعب دوراً شديد الخطورة في تشنيع الناصرية من خلال كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة» ومن بعد كتاب «نقد الفكر الديني» حيث يخلص إلى أن هزيمة حزيران 67 كانت قدراً وأن الانتصار على إسرائيل يستدعي بلوغ درجة تقدّمها، وأن هزائم أخرى تنتظر العرب ما لم يبلغوا مرتبة الصهاينة في التقدّم والنمو، الأمر الذي كذّبته ليس فقط حرب أكتوبر 73 وإنما أيضاً المقاومة في جنوب لبنان وحروب 2006 وما بعدها في غزّة. والمؤسف أن نجد الدكتور العظم قيادياً نافذاً في أواخر حياته في «المجلس الوطني السوري» الذي نشأ على هامش «الربيع العربي» بدعم غربي وخليجي صريح.
في مئوية ولادته الأولى يبدو الوجه العربي لجمال عبدالناصر مازال نضراً تتراجع أي من إنجازاته في التحرّر الوطني من الاستعمار في الجزائر وجنوب اليمن وعموم شمال أفريقيا والخليج العربي. وإذا كانت الأنظمة والدول التي نشأت على هامش الحركة الناصرية قد استهدفها «الربيع العربي» ودمّر بعضها فصارت مواقع خطرة ليس فقط على أهلها وإنما على الذين دمّروها. والبادي أن الثورات الرجعية في هذه البلدان قد دفعت أهلها إلى الحنين المبكر إلى ما قبل الخراب.
وفي مئويته الأولى يبدو جمال عبد الناصر شاباً إلى حد أن وشمه الوحدوي العربي مازال يحتفظ بملامحه الأساسية. فكل الاستنتاجات الجدية تقول بأن خلاص العرب لايتم عبر بلدان مجزأة ومفتتة وإنما عبر اتحاد عربي وضع ناصر فكرته الأولى رغم إخفاق تجربة الوحدة المصرية السورية القصيرة الأمد.
في المحصّلة نرى أن جمال عبد الناصر تولّى الحكم مدة 15 عاماً قلب خلالها مصر والعالم العربي والعالم الثالث رأسا على عقب، ونقل بلاده والعرب للمرة الأولى بعد أربعة قرون عثمانية من الكواليس إلى صدراة المسرح السياسي في العالم، الأمر الذي أذهل أعداءه في الغرب فاعترفوا بأثره رغم تضرّرهم، وصنّفوه بين 20 زعيماً في العالم صنعوا القرن العشرين.
في مئوية ناصر الأولى ما زالت الصفحة الناصرية مفتوحة على مصراعيها رغم محدودية أثر ورثته أو الذين ادعوا الانتماء إليه وبعضهم تسلّل مع الأسف إلى حضن أعدائه، ما يعني أن بوسعنا القول لـ«ابن البوسطجي» من دون تردّد… إلى الغد يا ريّس.
فيصل جلول
Leave a Reply