مازال لبنان، ساحة يحاول العدو الإسرائيلي أن يخترقها بالأمن والسياسة والثقافة وفتح العلاقة معه والتطبيع، وهذا الهدف لن يسقط من سياسة الكيان الصهيوني، الذي كشفت الوثائق والتقارير التي خرجت عن مؤسساته الأمنية والمذكرات التي صدرت عن قادته، عن أن الإستراتيجية الإسرائيلية هي إقامة ما يسمى «حلف الأقليات» من الطوائف والعرقيات، والتعاون معها لحمايتها، وإنشاء دويلات على أساس ديني أو عرقي، كما هو حال الدولة العبرية التي إستقطبت يهود العالم، إلى دولتهم المزعومة في فلسطين على أنها أرض الميعاد.
الاختراق
الاختراق الصهيوني للبنان، بدأ ما قبل قيام الكيان الغاصب في فلسطين عام 1948، وافتتحته الحركة الصهيونية، التي تورد الوثائق والتقارير، كيف عملت على تجنيد العملاء لها والوسائل التي استخدمتها في سبيل شراء الأراضي الفلسطينية، ثم في تكوين رأي عام، أن إسرائيل دولة طبيعية في المنطقة بالرغم من احتلال فلسطين وطرد جزء كبير من شعبها، وإقامة المستوطنات، وشن حروب توسعية، لإستكمال مشروع «إسرائيل الكبرى»، وقد حصل أنه بعد حرب حزيران 1967 والنكسة التي أصابت الأنظمة العربية وجيوشها، بعد نكبة عام 1948 التي أضاعت هذه الأنظمة فلسطين، فإن إسرائيل ركّزت على فرض الإستسلام على أنظمة عربية وأخذ اعتراف بدولتها، وقد حققت ذلك في الهدنة التي قامت بينها وبين الدول العربية المجاورة لها، ثم في الاتفاقيات التي وقعتها مع كل من النظام المصري في عهد الرئيس أنور السادات عام 1978، ثم في اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، واتفاق وادي عربة مع الأردن في العام 1994.
لبنان مقاوم
في ظل كل معاهدات الذل واتفاقات الاستسلام، كان لبنان يقاوم ويحرر أرضه منذ أن دخلتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزوها عام 1978 وإقامة «الشريط الحدودي»، وفي الإجتياح عام 1982، فكان التحرير الكبير في 25 أيار 2000 دون قيد أو شرط، ولا اتفاقية سلام كما كانت إسرائيل ترغب أن يحصل مع لبنان من خلال اتفاق 17 أيار الذي أسقطته المقاومة، ومنعت ذلك على الحكم في لبنان الذي كان بعهدة أمين الجميّل الذي إرتبط حزبه الكتائب بعلاقة مع العدو الإسرائيلي منذ خمسينات القرن الماضي، وترجمها في أثناء الحرب الأهلية التي اندلعت في العام 1975، بعلاقة مباشرة وعلنية مع إسرائيل ومشاركة ميليشيات «القوات اللبنانية» بالحرب الإسرائيلية على لبنان.
العدو يطل من جديد
ولم يترك العدو الإسرائيلي لبنان بالرغم من هزيمته عامي 2000 و2006، فهو يحاول في كل مرة إحداث اختراق أمني فيه من خلال زرع عملاء له، سواء عبر أفراد أو شبكات لتنفيذ عمليات أمنية تستهدف قادة المقاومة اللبنانية وتحديداً «حزب الله» أو الفلسطينية، وهذا أمر متوقع وترصده حركات المقاومة كما أجهزة الدولة اللبنانية الأمنية، حيث نجحت أحياناً في تعطيل أعمال إجرامية كان العدو يسعى إليها من خلال عملائه، وفي أحيان أخرى كان «الموساد» الإسرائيلي ينجح في تحقيق أهدافه ومنها محاولة اغتيال أحد قادة حركة «حماس» محمد حمدان في صيدا، قبل أسبوعين، وتمكّنت شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي من كشف الشبكة التي نفّذت العملية، وخلال وقت قصير، وهي برئاسة أحمد بيتية وهو لبناني من طرابلس، وله تاريخ بالتعاون مع العدو الصهيوني، وتمكّن من الهرب إلى هولندا حيث يعمل مع اثنين من شركائه وفرّ أحدهما إلى تركيا واستردّه لبنان ويدعى محمد الحجار، ويسعى إلى استرداد العميلين الآخرين، إذ أظهر هذا الإختراق الأمني الإسرائيلي، أن لبنان مازال مستهدفاً من الإرهابين الصهيوني والتكفيري، مع اعتقال القوى الأمنية شبكة لتنظيم «داعش»، كانت تخطط لعمليات إرهابية في أماكن عدة من لبنان.
التطبيع الثقافي
وفي الوقت الذي يواجه فيه لبنان الإختراق الأمني الإسرائيلي، فإن اختراقاً آخر يعود إليه من مرة إلى أخرى، عبر أفلام سينمائية أو حفلات فنية لمطربين، أو كتب مدرسية وغيرها، إضافة إلى استدراج فنانين ومثقفين ومفكرين وإعلاميين لبنانيين، لنشر حالة تطبيع مع الكيان الصهيوني، وكان آخر المحاولات الإسرائيلية مع المسرحي زياد عيتاني، كما مع المخرج السينمائي زياد دويري الذي زار الكيان الصهيوني وصوّر فيلماًهناك، وقد لاقى اعتراضاً من قبل أطراف لبنانية رفضت أن يُعرض فيلم قام صاحبه بصناعته في إسرائيل، وكأن شيئاً لم يكن، حيث أوقفه الأمن العام وحقّق معه ثم أخلي سبيله، حيث مازالت قضيته، موضع خلاف لبناني.
المخرج سبيلبرغ
ومع التساهل الذي حصل في عرض فيلم دويري، بدأ عرض فيلم «ذا بوست» للمخرج الأميركي اليهودي ستيفين سبيلبرغ، في لبنان، بعد أن عارض الأمن العام ذلك، لأن هذا المخرج اسمه على لائحة المقاطعة، لكن وزير الداخلية نهاد المشنوق سمح بعرضه، مما لاقى ردوداً سلبية على القرار الذي يسمح لشخص تبرع بمليون دولار للعدو الصهيوني، أثناء حرب 33 يوماً التي شنها على لبنان صيف 2006، ويجاهر بأنه يقدم مساعدات مالية، ودعم سياسي للكيان الصهيوني.
فهذا المناخ السياسي والثقافي الذي تحاول قوى سياسية فرضه على لبنان، للقبول بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، فإن القوى المنتظمة بالمقاومة أو الحليفة لها، رفضت ذلك وقررت المواجهة بالموقف، ومنع تسلل بضاعة إسرائيلية على لبنان الذي يمنع دستوره وقوانينه التعامل مع العدو الإسرائيلي، وهو لديه مكتب في وزارة الاقتصاد يسمى «مقاطعة إسرائيل» ومرتبط بمكتب موجود أيضاً في الدول العربية التي نص ميثاقها على رفض الاعتراف بالكيان الصهيوني، إلا أن الأنظمة المتحكمة بها والتي باشرت التطبيع مع العدو الصهيوني أوقفت العمل بهذا الميثاق، الذي أخرج الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس، بعد أن زار رئيس النظام المصري أنور السادات تل أبيب في العام 1977.
دعوة للمواجهة
فالتطبيع مع العدو الصهيوني الذي بات سياسة تعتمدها أنظمة عربية، فإن لبنان المقاوم الذي أسقط المشروع الإسرائيلي لفرض العلاقة مع الكيان الصهيوني، وتمكّن من دحر الاحتلال وإخراجه عن أرضه، قرّر المواجهة مع دعاة التطبيع الذين يفتحون الساحة اللبنانية لبضائع إسرائيلية، ولشخصيات يهودية صهيونية تحت نشاطات فنية أو ثقافية أو سياحية، حيث أكّد الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير، أن لا تهاون مع مثل هذا النهج التطبيعي والاستسلامي، ومحاولة فرض أمر واقع، وقد تمّ تنظيم مؤتمر لمكافحة التطبيع مع الكيان الصهيوني، حيث يحاول النائب السابق فارس سعيد المنسق العام لقوى «14 آذار»، العمل لزيارة حجّ إلى الأماكن المقدسة في فلسطين المحتلة، وهو عمل تضعه قوى المقاومة، في خانة التطبيع، فيما هو يعتبره إلتصاقاً بفلسطين وقضيتها.
الخلاف حول مَن هو العدو
وأمام هذه الوقائع والتطورات، والسجال الذي دار حول زيارة دويري إلى فلسطين المحتلة، وعرض لمخرج يهودي تبرّع لإسرائيل، ثم اعتبار توقيف شخص إرتبط بعلاقة مع إحدى السيدات الإسرائيليات التي حاولت تجنيده، بأنه اعتداء على الحريات كما في توقيف زياد عيتاني، فإن لبنان عاد ليدخل في مرحلة تحديد مَن هو العدو، وهو ما كان حُسم في اتفاق الطائف، إلا أن البعض يحاول أن يسوّق لفكرة أن التعامل مع العدو الإسرائيلي، وُجهة نظر، ويبرّر للعملاء الذين ارتبطوا به في أثناء احتلاله، على أنهم كانوا في حالة الإضطرار، وتعاطوا مع أمر واقع، حيث فقدت المعايير الوطنية، وسقطت القوانين، فيحاكم حبيب الشرتوني كمجرم قتل متعاوناً مع إسرائيل كبشير الجميّل، ويحكم عليه بالإعدام.
Leave a Reply