بعد وصفه لرئيس مجلس النواب بـ«البلطجي»
لم يكن متوقعاً أن ينفجر الخلاف الدستوري بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ورئيس مجلس النواب نبيه برّي في الشارع ومعه كاد أن يفجّر لبنان بزلة لسان من الوزير جبران باسيل، أججت الخلاف القائم حول إعطاء أقدمية لضباط دورة 1994، الذي حظي بتوقيع كل من رئيس الجمهورية العماد عون ورئيس الحكومة سعد الحريري، ووزير الدفاع يعقوب الصرّاف، وغاب عنه توقيع وزير المال علي حسن خليل، مما تسبب بنشوء أزمة دستورية وسياسية بين الرئاستين الأولى والثانية، لم تجد لها حلولاً بعد مرور حوالي أكثر من شهر عليها.
الكيمياء المفقودة
في الواقع، إن المرسوم، والتوتر الذي أعقب إقراره، ليسا سبب الخلاف القائم الذي تعود جذوره إلى سنوات طويلة مضت من غياب الانسجام والكيمياء بين الرئيسين عون وبرّي، منذ عودة الجنرال إلى لبنان في عام 2005، حيث لم ينسج برّي علاقات مع عون سابقاً، سوى في فترة قصيرة من ثمانينات القرن الماضي، إذ كان رئيس حركة «أمل» يحاول تسويق قائد الجيش آنذاك لدى سوريا، وما إذا كان يمكن طرحه كمرشح لرئاسة الجمهورية، إلا أن هذه المرحلة لم تدم طويلاً، وانقطعت الاتصالات مع عون الذي أصبح في موقع الخصم السياسي، عندما ترأس حكومة عسكرية مع انتهاء ولاية أمين الجميّل، ثمّ شنّه ما سماها «حرب التحرير» ضد الوجود العسكري السوري ولاحقاً رفضه لاتفاق الطائف والانخراط في السلم الأهلي متمرداً على شرعية انتخاب إلياس الهراوي رئيساً للجمهورية. وتلاحقت إثر ذلك تطورات عسكرية على الأرض أدّت إلى طرد عون من القصر الجمهوري ونفيه إلى فرنسا، حيث لم ينقطع عن العمل لإخراج ما وصفه بـ«الاحتلال السوري» للبنان.
الانخراط في التسوية
ومع فشل عون في إسقاط أو تعطيل اتفاق الطائف، عاد الزعيم المنفي إلى لبنان عام 2005، لينخرط في التسوية التي كانت مطروحة عليه في العام 1990، فعمل تحت سقف الاتفاق والدستور والنظام السياسي الذي نتج عنه، حيث شارك في الانتخابات النيابية في دورتي 2005 و2009، وحصد كتلة نيابية كبرى، ووقع تفاهماً تاريخياً مع «حزب الله» في كنيسة مار مخايل مع السيد حسن نصرالله، ولم تقبل حركة «أمل» أن تكون فيه، فسمّيت بـ«حليف الحليف»، وغاب أي تعاون وتنسيق بين عين التينة والرابية، وكانا دائماً على افتراق، لا في القضايا الاستراتيجية مثل دعم المقاومة، والعلاقة الإيجابية مع سوريا، بل في طريقة إدارة الدولة.
محطات التقاء
التقت كل من حركة «أمل» و«التيار الوطني الحر» في محطات سياسية مشتركة، مثل مواجهة العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006، ثمّ الاعتصام المشترك لقوى «8 آذار» بمواجهة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، واستقالة وزراء حركة «أمل» و«حزب الله» وصولاً إلى اتفاق الدوحة، ومشاركة وزراء من «تكتل الإصلاح والتغيير» في الحكومة مع ثلث ضامن أطاح بحكومة الرئيس سعد الحريري حين استقال وزراء «8 آذار» عشية اندلاع أحداث «الربيع العربي». إذ كانت كل أطراف خط المقاومة في جبهة واحدة ضد قوى «14 آذار» التي كانت بدأت تفقد ثقلها السياسي وحركتها الشعبية، وخسارة معركتها الداخلية.
الموقف الاستراتيجي الواحد
مساحة الالتقاء بين حركة «أمل» و«التيار الوطني الحر»، كانت واسعة، وتحديداً في الخيارات الوطنية الكبرى والإصطفاف إلى جانب المقاومة ضد العدو الإسرائيلي والتأكيد على العلاقة مع سوريا التي زارها عون بعد سحب قواتها من لبنان، في إشارة منه إلى أنه ليس ضد نسج علاقة أخوية مع الدولة الجارة، فزار دمشق وحجّ إلى قبر مار مارون مؤسس المارونية في مسقط رأسه براد، مشدداً على البعد المشرقي لمسيحيي لبنان، وليس الانعزالي، كما روجت لعقود أطراف لبنانية وعلى رأسها حزب الكتائب، فجاء العماد عون ليؤكّد على أن المسيحيين هم مشرقيون، وعلى حسن العلاقة مع سوريا والعمق العربي بالبعدين الجغرافي والاقتصادي، وهو ما أكسب عون رصيداً وطنياً في لبنان، عزّز من تفاهمه مع «حزب الله»، والتقائه الاستراتيجي مع حركة «أمل» وقوى حزبية ووطنية وقومية أخرى.
الاختراق في رئاسة الجمهورية
التوافق الاستراتيجي بين حركة «أمل» و«التيار الوطني الحر»، وقوى سياسية وأحزاب أخرى، فرّقته معركة رئاسة الجمهورية التي لم يكن فيها برّي داعماً لترشيح عون، على عكس حليفه «حزب الله»، في وقت دعمت «أمل» ترشيح النائب سليمان فرنجية الذي لاقى أيضاً دعم الرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط. لكن «حزب الله» استمر بدعم ترشيح عون الذي قبل به الحريري لاحقاً وأيّده سمير جعجع، لكن برّي وفرنجية، صوّتا مع كتلتيهما بورقة بيضاء، فكان الفراق السياسي مع عون، والذي انعكس على تشكيل الحكومة الحالية برئاسة الحريري. إذ أصرّ برّي على تمثيل «تيار المردة» وإعطاء ممثلها حقيبة وزارة الأشغال، وحقّق ما أراد، في وقت كان رئيس الجمهورية يرفض أن تسند وزارة المال إلى حركة «أمل» وشخص الوزير علي حسن خليل، الذي كان برّي يطالب به، ويصرّ على أن تعود إليه وزارة المالية، لأنها عُرفاً هي من حصة الشيعة، وهو التوافق الشفهي الذي حصل في اتفاق الطائف دون أن يتضمنه نص من الدستور الذي لم يلحظ أصلاً أن رئاسة الجمهورية للموارنة ورئاسة مجلس النواب للشيعة ورئاسة الحكومة للسّنّة، بل هي أعراف يُعمل بها منذ فجر الاستقلال، ليصبح العُرف أقوى من الدستور، وهو ما حصل مع تعيين وزراء المال من الطائفة الشيعية حيث يؤكّد الرئيس حسين الحسيني الذي كان من صانعي اتفاق الطائف، أن سبب إسناد وزارة المال إلى الشيعة، أن الرئيس برّي ومنذ مؤتمري جنيف ولوزان اللذين عقدا بين عامي 83 و84، كان يطالب أن يكون للطائفة الشيعية موقع في السلطة التنفيذية، تشارك فيه بالتوقيع على المراسيم والقوانين مع رئيسي الجمهورية والحكومة، واقترح أن يكون للشيعة منصب نائب رئيس للجمهورية أو نائب رئيس للحكومة، لكن لم يؤخذ باقتراحيه، إلى أن انعقد مؤتمر الطائف للنواب اللبنانيين الذين أقرّوا وثيقة للوفاق الوطني تضمّنت إصلاحات في النظام السياسي من أهمها إلغاء الطائفية السياسية، وهو ما لم يجر العمل على تطبيقه.
التشبّث بالصلاحيات
مع انسداد طرق الحل لأزمة مرسوم أقدمية الضباط، وتشبّث كل طرف بموقفه، حيث يتمسك رئيس الجمهورية بالمرسوم، في وقت يرفض الرئيس برّي اعتباره نافذاً إذا لم يحمل توقيع وزير المال، جاء عقد مؤتمر للطاقة الاغترابية في أبيدجان بدولة ساحل العاج في أفريقيا، برعاية وزير الخارجية جبران باسيل، ليثير الخلاف مجدداً حيث اعتبره الرئيس برّي استفزازاً من باسيل، فتوالت دعوات أفراد في الجالية لمقاطعة المؤتمر ودعوة باسيل إلى إرجائه، ليحصل في ظروف طبيعية وهادئة، وليس في ظلّ اشتباك سياسي في لبنان، وزير الخارجية طرف فيه مع رئيس الجمهورية ضد رئيس مجلس النواب الذي لم يقبل إدخال تعديل على قانون الانتخاب، وفق ما طالب باسيل، لاسيما في تمديد مهلة تسجيل المغتربين، كما في اعتماد الإقتراع في منطقة السكن، والذي كان يرفضه، فلم يوافق الرئيس برّي خشية فتح الباب لتعديلات أخرى قد تطيّر الانتخابات وتمدد لمجلس النواب لمرّة رابعة، حيث هدّد بأنه لن يفتح مجلس النواب لذلك، كما أن اللجنة الوزارية المكلّفة بتطبيق قانون الانتخاب، رفضت إجراء أي تعديل، وهو ما أغضب باسيل الذي وفي لقاء له في إحدى بلدات البترون، تمّ تسجيل كلمة له تفوّه فيها بعبارات غير لائقة بحق برّي الذي وصفه بـ«البلطجي»، حيث انتشر تسجيل له بالصوت والصورة، فأغضب مناصري حركة «أمل»، كما استفزّ قوى سياسية أخرى استنكرت كلام رئيس «التيار الوطني الحرّ» الذي أسف لما صدر عنه، في موقف له لإحدى الصحف، لكن الرئيس برّي لم يقبل به، وطالب باعتذار ينطق به باسيل، وهو ما لم يفعله وزير الخارجية، فزاد غضب أنصار «أمل» الذين نزلوا إلى الشارع احتجاجاً على وصف بري بالبلطجي، ليرتفع منسوب التوتر بين الطرفين مهدداً لبنان بالوقوع في فتنة، بين تنظيمين يفترض أنهما حليفان استراتيجيان. وقد جاء موقف «حزب الله» الداعم لبري، ليخلط الأوراق، ويطرح السؤال حول ما إذا انتهى مفعول «تفاهم كنيسة مار مخايل»، وما هو مصير العلاقة بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» وبالتالي مع الرئيس عون.
خطاب الانتخابات
الحديث عن تغيرات المشهد السياسي اللبناني وانعكاساته على الانتخابات المنتظرة في أيار (مايو) القادم، قد يكون مبكراً في هذه المرحلة، غير أنه من الواضح أن الخطاب التحريضي سيكون من أدواته الرئيسية على المسرح الانتخابي، لشدّ عصب الناخبين وكسب أكبر عدد ممكن من الأصوات في ظل قانون انتخاب يلفه الغموض، سواء في التحالفات أو النتائج المتوقع].
إن الخطابات المتشددة، واستخدام اللغة الطائفية، تحت عنوان حماية حقوق الطوائف، سيكون سلاحاً رئيسياً للفرقاء اللبنانيين خلال الأشهر القادمة، وهو ما ينذر بمخاطر جمّة تهدد أمن البلاد، فهل يتمكن اللبنانيون من عبور الاستحقاق الانتخابي بأقل أضرار ممكنة؟ أم أن كرة الخلافات ستتدحرج وتطيح بالسلم الأهلي؟
Leave a Reply