في مقال العدد الماضي تحدثنا عن الاهتراء الكبير الذي يصيب جسم المسمَّى وطناً، هكذا غيلةً وإجحافاً، لأن لا أسس ولا مداميك ولا سيراميك فيه يمكن البنيان عليها منذ الاستقلال المزعوم. واليوم أثبت لبنان الكيان –مرة أخرى– أنه هو أوهن من بيت العنكبوت مثل إسرائيل تماماً، منذ أن اقتطعه المستعمِر الفرنسي على طريقة «خزِّق ولزِّق» (cut and paste) لكي يجعله وطناً قومياً للطائفة المالكة يحاكي الوطن القومي لليهود في فلسطين الذي كان قيد الإنشاء من قبل المستعمِر الإنكليزي البغيض.
فبريطانيا «الصغرى» (فشر أن تكون عُظْمَى وهي سببت مشاكل ثلاثة أرباع العالم) وفرنسا ذات الإرث الاستعماري الأسود، كانتا تتنافسان على النفوذ العالمي في ذلك الوقت فتخلقان دولاً من لا شيء، تقتطعها من دول أخرى وأمم وتضعان حدوداً مصطنعة بما يخدم مصالحهما في تقاسم العالم.
هذه المقدمة ضرورية لكي نفهم سر دزينة الحروب الأهلية مع ملحقاتها في لبنان، ولكي نفقه ماذا جرى خلال هذا الأسبوع بعد سقطة وزير الخارجية جبران باسيل وردود الفعل عليها. لن نخوض في التفاصيل التي أصبحت معروفة ويتداولها الناس ثانية بثانية على الواتساب والسوشال ميديا –وربما هذا ما جيَّش النفوس وسعَّرها بعد تسريب الڤيديو سبب المشكلة. إلا أن لُب القضية ليس الكلام الجارح الذي نطق به باسيل في اجتماع مغلق، ولو كان القشَّة التي قصمت ظهر البعير، بل اصطدام نهجين مختلفين في الحكم واختلاف نظرتيهما للأمور منذ انتخاب العماد عون رئيساً.
وقبل سبر أغوار الخلاف لا بد من إبداء ملاحظة أنَّ نتنياهو وبن سلمان لا شك أنهما ابتسما كثيراً في الأيام القليلة الماضية، لأن ما لم يتمكنا من تحقيقه عبر بذل المال وتجنيد الإعلام والمرتزقة والعملاء وحتى احتجاز رئيس وزراء لبنان، تحقق خلال أربعة أيام من الأحداث التي كادت تخرج عن السيطرة وتتحول إلى حربٍ أهلية. وجيد أن السيد حسن نصرالله تمكن من حل الإشكال بين الطرفين ولكن ما الضمانة في عدم استمراره وما هي الدروس والعِبر التي يمكن استخلاصها لتجنب تكراره في المستقبل؟ كما لا يضير الإضاءة هنا بقوة على شماتة واستغلال اخصام التيار العوني وحركة «أمل» واستغلال العدو للخلاف الداخلي حيث انبرى وزير حربه ليبرمان بإعلان الحرب لسرقة ثروة لبنان النفطية!
لذلك فالخلاصة أو العبرة الأولى مما حصل هي وجود غرفة عمليات سرية هدفها زعزعة استقرار البلد وتلقينه دروساً مؤلمة بسبب انتصار مقاومته على التكفيريين والوهابيين والصهيونيين، وخلط التحالفات لمنع الفريق المقاوِم (بفرعيه الشيعي والماروني العوني) من حصد النتائج. فالسؤال الذي يجب طرحه هو من الذي سرب الفيديو ومن الذي نبش قبور مواقف قديمة ماضية لا تشرٍّف أصحابها الْيَوْمَ بعد تفاهمهم مع الشريك الوازن في الوطن؟ ومن الذي أطلق شعارات تخدش الحياء ومن الذي كان يدّعي التهدئة ثم يرسل الفيديوهات الفتنوية؟ فتشوا عن أصابع بني سعود وصهيون من أخصام عون وحركة «أمل» الذين استدعاهم بن سلمان سابقاً! فالذي افتعل الإشكال الناري في منطقة الحدث لا يمكن أن يكون من أبناء الإمام السيد موسى الصدر الذي كان حامي الوطن وصيغة العيش المشترك، ولا أن يكون عونياً يحرص على سلامة البلد. الأسلوب يشبه اُسلوب المندسين من الاستخبارات ذاتها التي اغتالت معروف سعد لتُشعِل شرارة الحرب الأهلية وأسلوب بوسطة عين الرمانة واغتيال الرئيس رفيق الحريري والتفجيرات الأمنية الكبرى وآخرها محاولة قتل مسؤول «حماس» في عين الحلوة!
العبرة الثانية هي المحاولة المستميتة من قبل الطابور الخامس لفك الارتباط بين التيار العوني والمقاومة لإضعاف الموقفين معاً. إلا أن المشكلة ليست فقط ناجمة عن تآمر الفريق الداخلي والخارجي الذي لا مصلحة له في تفاهم «مار مخايل» بل في بعض ممارسات «التيار الوطني الحر» اثر اعتلائه سدة الحكم. وقد تعرض التوافق الوطني للإهتزاز على ما يبدو خصوصاً بعد عودة الحريري من الأسر والذي بدا وكأنه مشدوهاً ومشدوداً بالعرفان بالجميل للرئيس عون فقط لدرجة تذويب موقع رئاسة الحكومة بما يتعارض مع اتفاق الطائف، وبالتالي تجاهل الشريك الآخر في الطائفة التي وقفت معه بقضها وقضيضها خلال محنته في حين تخلى عنه أقرب الناس إليه. والأكثر من جنحة عدم الوفاء للمقاومة وجمهورها على معروفهما، اشتمام رائحة أو شبهة العودة إلى صيغة «الميثاق الوطني» البغيضة، والسيبة المارونية–السنية التي عفا عليها الزمن. هذا يختصر سبب الإشكال حول مرسوم الأقدمية وربما التوجُّس من تفكير أحدهم في «التيار الوطني الحر» بالعودة إلى النظام الرئاسي الطائفي مما قد يعيد الأمور الى نقطة الصفر بعد حروب أهلية طاحنة. يجب على العونيين أن يفهموا أنه لن يتمكنوا من ربح المقاومة إذا خسروا جمهور الإمام الصدر لأنهما صنوان لا يفترقان. كما على حركة «أمل» أن تعمل المستحيل على حماية التفاهم والتحالف بين المقاومة وعون لأنه من الضمانات المهمة في البلد.
العبرة الثالثة هي أن الحريري لا يهش ولا ينش ولَم يبادر من خلال موقعه في رئاسة الحكومة إلى مبادرة سريعة تزيل الاحتقان في البلد كما فعل الآخرون عندما أنقذه رجالات البلد من أزمته، بل أنه سارع إلى الضرب مجدداً بسيف خاطفه عندما ترك القضاء يدعي على الإعلامي هشام حداد بسبب ذكره لابن سلمان!
هناك تغريدة حق يُراد بها باطل لميشال سليمان يقول فيها –شاملاً نفسه– اننا لم نبنِ وطناً! سليمان آخر من يحق له الكلام في هذا الإطار فهو وغيره من وحوش الساسة هم سبب الخراب ولكن صحيح لم يحاول أحد منذ الاستقلال المزعوم بناء وطن يعرف فيه السياسيون حقيقة الخدمة العامة والتعاطي الحضاري مع بعضهم البعض!
لقد زمط لبنان الواقف دائماً على حافة الهاوية من بوسطة عين رمانة أخرى و١٣ نيسان آخر في الحدث، فهل يتعظ السياسيون ويبنون على ذلك من أجل مستقبل أفضل؟
Leave a Reply