«عذريني يا حروف الأبجدية/ إذا مابعمل الواجب عليِّ/ خسرت خِلّي المفضّل عا ولادي/ وعليِّ مثل أمي وبيِّ/ خمس ساعات صرلو مش زيادي/ ماحلّو يبتدي النسيان فيِّ/ بعزا خيّي رجعت عزّي فؤادي/ لأني بعتبر كل شخص منكم هوّ خيّي ومثل خيّي».
بهذه الأبيات الشعرية بدأ غريد لبنان وصداح المنابر، الراحل زغلول الدامور، حفله في قلعة بيت مري التي كانت تحتضن أكبر المباريات الشعرية الزجلية بينه وبين الشاعر موسى زغيب، ولسوء القدر أن أخاه قد وافاه الأجل بنفس ذلك اليوم الذي تقرر فيه إقامة المباراة، لكن سعة صدره والتزامه بجمهوره واحترامه لهم دفعه إلى رفض تأجيل الحفل، حيث كان ذلك الجمهور المحب للشعر الزجلي ينتظر الاستمتاع بمباراة شاعرين كبيرين لهما ثقلهما الشعري على الساحة اللبنانية، فصعد إلى المنبر والمتجمهرون يصفقون لنبله ووفائه، حيث قد حضر الاحتفالية رغم حزنه الشديد إذ كان قد دفن أخاه قبل ساعات، ثم بدأ حفل الافتتاح بقصيدته المعبرة الآنفة.
ولمن لا يعرف تاريخ هذا الشاعر العظيم فإنه قد بدأ مشواره الشعري وهو يدرج في مراحل الدراسة، حيث كان يحمل الورقة والقلم ويفترش الأرض تحت أشجار الصنوبر ليدون ما تحرره قريحته المنفتحة على العالم والبيئة والطبيعة، وحين يدخل إلى المدرسة ينتهز فرصة الاستراحة الصباحية ليقرأ على مسامع أساتذته ورفاقه ما كتب من شعر، حتى وصل الأمر بأحد أساتذته إلى التصريح بأنه بدأ «يزغلل»، ومن وقتها لقب بـ«الزغلول» أو «زغلول الدامور» نسبة إلى مسقط رأسه بلدة (الدامور)، ومن بعدها لم يحمل اسمه الحقيقي إلا في الهوية الشخصية التي تعرّفه بإسم جوزيف الهاشم.
أنشأ أول فرقة له عام 1944، وجال بها في جميع البلدات اللبنانية فكان صوته يصدح في كل مكان، كما تمتع هذا الشاعر الذي سكن قلوب الناس بصوت زجلي منغّم لم يكن له نظير، مما حدا بالجماهير الحرص على حضور حفلاته للاستمتاع بصوته المغرد الذي لم يكن يضاهيه أي صوت آخر، ثم طاف بفرقته العديد من بلدان العالم، ناقلاً التراث اللبناني الزجلي ومعرّفا به. هذا الزجل القريب من قلوب أوسع الطبقات من الناس وخاصة في بلاد الشام مثل سوريا والأردن وفلسطين، ذلك اللون الشعري الذي يوصل معانيه إلى سامعيه بلهجتهم التي سرعان ما تذوب في مشاعرهم فيتعاطفون معه إلى درجة ملامسة الشغاف من قلوبهم.
في إحدى الأمسيات السالفات أسعفني الحظ بأن يصطحبني والدي لحضور إحدى مباريات الشاعر زغلول مع نده الشاعر موسى زغيب في بلدة الدامور، حيث كان والدي صديقا للشعراء ومحبا للزجل اللبناني كما كان شاعر المناسبات في بلدتنا والجوار. لا أبالغ إذا قلت إن الجماهير قد حضرت من معظم المناطق المجاورة لحضور تلك الاحتفالية التي فسحت المجال للميزان الشعري أن يكون الفاصل بين الشاعرَين.
الاحتفال بدأ الساعة الثامنة مساء وانتهى مع ساعات الفجر الأولى، وخلال مويجاته كان صوت الزغلول يصدح بحيث يصل إلى القرى المجاورة، لقوته وعلو طبقاته، إذ يتمتع بقدرة الصعود إلى دمدمة الطبل وينزل إلى أنين الناي، تلك القدرة التي يطلق عليها المختصون بالأنغام الصوتية، إمكانية التحكم الصوتي بين القرار والجواب.
لم تتغير نبرته طوال ذلك الوقت ومضي عدد الساعات الطوال، حيث بقي محافظاً على انسيابية التغريد كعادته، فصفق له الحضور بحرارة وحمل على الأكتاف ونثرت عليه الورود وتعالت من حوله الزغاريد كعريس في ليلة عرسه. ولما انتهى الحفل طوقته الجماهير وأغدقت عليه الثناء والاعجاب، فبادلهم القبل والمصافحات بتواضعه المعهود ودماثة خلقه التي هي عنوان نجاحه قبل موهبته.
بعد الانتهاء من توديع الحاضرين أخذني والدي من يدي ليعرفني به حيث كانت هناك معرفة بينهما فسألني بتودد: «هل تجيدين نظم الشعر الزجلي مثل والدك؟ إذ كم من مرة عرضنا عليه أن يشاركنا بالانضمام إلى فرقتنا ولم يستجب لنا». فأجابه والدي بأن «ابنتي تنظم الشعر الزجلي مثلي» فراح يربت على كتفي ومازحني قائلاً: «هل تنازلينني في الزجل؟» شعرت بالخجل إزاء ذلك فتأبطت ذراع أبي فضحك وقال: «الشعراء لا يختبئون».
مضت بعد ذلك السنون، وتخرجت وسافرت إلى السعودية للعمل حيث بقيت مدة سنتين مقيمة هناك، وبعد عودتي اصطحبني والدي مرة أخرى لحضور مهرجان زجلي في منطقة البقاع وكان الحفل لجوقة الزغلول. وعند اللقاء سلم على والدي وسأل: «أين الشاعرة الصغيرة؟» ضحك والدي قائلاً: «لقد كبرت وها هي معي بعد غيابها لمدة عامين في العمل خارج لبنان» فبادرني على الفور بأبيات من الشعر الوجداني:
«من بعد غيبة سنتين/ جيتينا يا نور العين/ الحفل ضوّه بوجودك/ نوّرت يا بنت الزين» في إشارة إلى شهرة والدي المرحوم (الزين).
رحم الله الشاعر الزغلول، فقد خسر لبنان برحيله عملاقاً في الزجل الذي لم ينجب له مثيلاً.
Leave a Reply