تطوّرات عديدة وخطيرة مرّت بها «منظمّة التحرير الفلسطينية» منذ العام 1982، الذي شهد حرباً إسرائيلية واسعة على لبنان، استهدفت بشكلٍ أساسي إضعاف الوجود الفلسطيني المسلّح على أرضه والقضاء على قيادة المقاومة الفلسطينية. ومنذ ذلك التاريخ، تتعرّض «منظمّة التحرير» لسلسلة من الانتكاسات السياسية ومن تراجع تعبيرها عن الكفاح الفلسطيني المسلّح، رغم بقاء المنظمّة كمرجعية شرعية وحيدة لتمثيل الشعب الفلسطيني.
واقع الحال الفلسطيني الآن يختلف كثيراً عمّا كان عليه في فترة صعود دور «منظمّة التحرير»، خاصّةً في الفترة ما بين العامين 1967 و1982، حيث كانت حركة «فتح» بقيادة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات هي التنظيم الأكبر المهيمن على مقدّرات «المنظّمة»، والأكثر تأثيراً في عموم الأماكن التي يتواجد بها الفلسطينيون. الصورة الآن تختلف عن تلك الحقبة، حيث يعيش الفلسطينيون مرحلة تسود فيها الخلافات بين القيادات، وحيث الانقسامات الجغرافية بين أماكن توزّع الفلسطينيين تزيد من حجم اختلاف الأولويات والبرامج السياسية، ومن تعدّدية الرؤى لدى القوى الفاعلة في هذه الأماكن.
اليوم هناك تعدّدية في القضايا والاهتمامات والقيادات لدى الفلسطينيين المنتشرين في معظم أنحاء العالم، بل يمكن وضع هذه التعدّدية الفلسطينية في خمس دوائر: دائرة الضفّة الغربية والقدس، دائرة قطاع غزّة، دائرة الوجود الفلسطيني في أراضي العام 1948، دائرة المخيمات واللجوء الفلسطيني في الدول العربية المجاورة، ثمّ دائرة المهاجرين الفلسطينيين المنتشرين في العالم والذين معظمهم من أصحاب الكفاءات المهنية العالية. لكن للأسف، لا توجد الآن مرجعية فلسطينية واحدة تقود هذه الدوائر كلّها وتنسّق بين جهود القوى الفاعلة في كلٍّ منها، كما ليس هناك توافق بين هذه الدوائر الخمس على رؤية سياسية واحدة لمستقبل القضية الفلسطينية.
أسبابٌ كثيرة مسؤولة عن هذا الواقع الانقسامي الفلسطيني بعضها مردّه سوء الحال العربي، الذي بدأت أولى مراحله بالمعاهدة المصرية–الإسرائيلية في نهاية عقد السبعينات وخروج الثقل المصري من الصراع العربي–الصهيوني الممتد لقرنٍ من الزمن، ثمّ ما تلا ذلك من حربٍ إسرائيلية على لبنان في العام 1982، ثمّ الانعكاسات السلبية على «منظمّة التحرير» بسبب غزو صدام حسين لدولة الكويت وانهيار أسس التضامن العربي عقب هذه المرحلة في مطلع عقد التسعينات، لكن العطب الأساس في الجسم الفلسطيني مسؤولة عنه قيادة «منظمّة التحرير» حينما وقّعت «اتفاقيات أوسلو» التي تخلّت فيها المنظمّة عن حقّها بالكفاح المسلّح ضدّ الاحتلال، واعترفت بدولة إسرائيل، مقابل، فقط الاعتراف الدولي بالمنظمّة وليس بحقوق الشعب الفلسطيني، ومن دون الاشتراط – في الحدّ الأدنى –على إسرائيل أن تعلن حدود دولتها قبل الاعتراف الفلسطيني بها!
وهاهي تطوّرات الحاضر، بعد أكثر من ربع قرن مرّ على «اتفاقيات أوسلو»، تؤكّد خطأ السياسة التي انتهجت من قبل قيادة المنظمّة في المراهنة على دورٍ أميركي ضاغط على إسرائيل من أجل بناء الدولة الفلسطينية المستقلّة على حدود العام 1967. وهاهو الإستيطان يأكل الأخضر واليابس في الضفّة والقدس مع دعم «ترامبي» مفتوح لسياسة حكومة نتنياهو في الأراضي المحتلّة وخارجها.
هناك العشرات من الشهداء الفلسطينيين الذين يسقطون الآن في مقاومة الاحتلال بأشكال مختلفة ولا يسألون عن «اتفاقيات أوسلو» وأخواتها. وهناك العديد من مشاهد الصمود الفلسطيني والحرص على الهُوية الفلسطينية والتمسّك بالأرض، رغم قهر وعسف الاحتلال على كل الأراضي الفلسطينية، بما فيها الأراضي المحتلّة عام 1948. وهناك آلاف من الناشطين الفلسطينيين في مختلف عواصم العالم يبذلون الجهد لتوعية الرأي العام بحقيقة القضية الفلسطينية ولمواجهة حملات التشويه التي تمارسها الجماعات الصهيونية، ولا ينتظر هؤلاء تعليمات أو قرارات من أي مرجعية فلسطينية، بل يرون ذلك كواجب وطني على كلّ فلسطيني أينما كان. فهذه هي طبيعة هذا الشعب الفلسطيني البطل الذي قد تنحرف قياداته أو قد تتصارع قواه لكنّه لا يستسلم ولا يخنع، ولا يقبل بالتنازل عن حقوقه المشروعة في أرضه وفي وطنه السليب.
ولعلّها فرصةٌ تاريخية الآن لقيادات الشعب الفلسطيني أن تطوي فيما بينها صفحات الماضي وما فيها من خلافات، وأن تبدأ صفحة جديدة من كتاب النضال الفلسطيني الذي عمره أيضا مائة عام، والذي كانت فيه محطّة مهمّة هي تأسيس «منظمّة التحرير الفلسطينية» في مطلع عقد السيتّينات، بمبادرة من القيادة الناصرية لمصر آنذاك، حيث حرصت القاهرة حينها على تحويل القضية الفلسطينية من «مسألة لاجئين» إلى قضية مقاومين في معركة تحرّر وطني شامل للشعب الفلسطيني.
وفي العودة للنصوص المنشورة على موقع «وكالة وفا» الفلسطينية عن نشأة «منظمّة التحرير»، نجد هذا النص الذي هو خير ما يمكن قوله الآن في هذه المرحلة، على المستويين العربي والفلسطيني، عن إعادة بناء المنظمة:
«تقدّمت وزارة الخارجية المصرية بتوصية إلى مجلس جامعة الدول العربية، في آذار (مارس) 1959 من أجل العمل على إبراز الكيان الفلسطيني، فوافق، في دورته الحادية والثلاثين في 9 مارس على قرارات تتعلّق بالشعب الفلسطيني، بعد بحث مجلس الجامعة للمرّة الأولى موضوع «إعادة تنظيم الشعب الفلسطيني وإبراز كيانه شعباً موحداً، لا مجرد لاجئين بواسطة ممثلين يختارهم». ودعت قرارات المجلس إلى إنشاء «جيش فلسطين في الدول العربية المضيفة». وواكبت هذه الدعوة إنشاء «الاتحاد القومي الفلسطيني»، في مصر وغزّة وسورية (حصل ذلك في فترة الوحدة بين مصر وسوريا تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة)؛ ودعوة جمال عبد الناصر لإنشاء كيان فلسطيني، غايته: «مواجهة نشاط إسرائيل لتصفية المشكلة الفلسطينية وإضاعة حقوق شعب فلسطين». لكن عدم تنفيذ القرارات المتعلّقة بالكيان الفلسطيني، دفع القاهرة إلى تقديم مذكّرة إلى الجامعة العربية، تطالب بإبراز الشخصية الفلسطينية؛ وذلك خلال اجتماع مجلس الجامعة في شتورة (لبنان)، في آب (أغسطس) 1960.
حدّدت لجنة الخبراء التابعة لجامعة الدول العربية في تموز (يوليو) 1962، شكلاً للكيان الفلسطيني، يقوم على أساس الدعوة إلى مجلس وطني، يضمّ التجمّعات الفلسطينية. وتنبثق منه جبهة وطنية تقود الشعب الفلسطيني؛ وتكون لها اختصاصات عسكرية وسياسية وتنظيمية وإعلامية ومالية. إلا أن معارضة الأردن، والخلافات بين بعض الدول العربية، حالت دون تقديم المشروع إلى مجلس الجامعة.
وإثر وفاة أحمد حلمي، رئيس «حكومة عموم فلسطين»، وممثل فلسطين لدى الجامعة العربية، بحثت الدورة الأربعون لمجلس الجامعة في 15 أيلول (سبتمبر)، تعيين خلفٍ له. واختير أحمد الشقيري لهذا المنصب على رغم معارضة الأردن والمملكة العربية السعودية لذلك. وصدر قرار المجلس الرقم 1933، باختيار «السيد أحمد الشقيري مندوباً لفلسطين لدى مجلس جامعة الدول العربية، وذلك طبقاً لملحق ميثاق الجامعة الخاص بفلسطين؛ وإلى أن يتمكّن الشعب الفلسطيني من اختيار ممثليه». ودعا القرار الشقيري إلى زيارة الدول العربية، من أجل بحث القضية الفلسطينية من جميع جوانبها، والوسائل التي تؤدّي رفعها إلى ميدان الحركة والنشاط. وأكّد القرار نفسه:
1 – أنّ الشعب الفلسطيني، هو صاحب الحق الشرعي في فلسطين. وأنّ من حقّه أن يستردّ وطنه، ويقرّر مصيره، ويمارس حقوقه الوطنية الكاملة.
2 – أنّ الوقت قد حان، ليتولّى أهل فلسطين أمر قضيتهم. وأنّ من واجب الدول العربية، أن تتيح لهم الفرصة لممارسة هذا الحق.
3 – تأييد المبادئ العامّة، التي وردت في مذكّرة عراقية دعت إلى إبراز الكيان الفلسطيني، بإجراء انتخابات بين الفلسطينيين لتكوين مجلس وطني فلسطيني؛ ينتخب حكومة فلسطينية، تقيم علاقات سياسية بكافّة الدول العربية وتنسّق معها، وتتولّى الدعوة إلى استعادة فلسطين بمشاركة كافّة الدول العربية المهتمّة بتحريرها، وإقامة جيش التحرير الفلسطيني.
وحدّد الشقيري هدف الكيان الفلسطيني في أول خطاب له أمام مجلس الجامعة، بأن: «يصبح أهل فلسطين قوّة وطنية عاملة، تسهم في تحرير فلسطين، وحمل السلاح لتحريرها بأيدي القادرين على حمل السلاح من أبناء فلسطين». وأوضح قائلاً: «إنّ الكيان الفلسطيني، ليس حكومة، ولا يمارس سيادة، وإنّما هو تنظيم للشعب الفلسطيني، يتعاون مع جميع الدول العربية، ويهدف إلى تعبئة طاقات الشعب الفلسطيني عسكرياً وسياسياً وإعلامياً، في معركة فلسطينية». وبادر الشقيري، بتسهيلات من الحكومة المصرية، إلى زيارة عمّان ودمشق وبيروت وقطاع غزّة. كما ألَّف وفداً فلسطينياً، من ثمانية عشر شخصاً، لحضور دورة الأمم المتحدة عام 1963.
وفي الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) 1963، عقدت الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة جلسة خاصّة، بحثت فيها قضية فلسطين وموضوع اللاجئين الفلسطينيين بصورة رئيسية. تحدّث أحمد الشقيري، رئيس الوفد الفلسطيني، فقال: إنّ الوفد يطالب بعودة اللاجئين إلى وطنهم، وليس إطعامهم فتات الخبز. وإنّ قضية فلسطين، ليست قضية لاجئين نفتش عن تأمين إعاشتهم وإطعامهم وإسكانهم؛ وإنّما هي قضية وطن، تعرّض لأكبر غزوة استعمارية صهيونية، طردت منه مليون فلسطيني. علينا شجب الغزوة الاستيطانية الاستعمارية الصهيونية، وإعادة المليون فلسطيني إلى بلادهم وبيوتهم وأراضيهم.
دعا الرئيس عبد الناصر في 23 كانون الأول (ديسمبر) 1963، إلى عقد مؤتمر للقمّة العربية؛ لبحث التهديدات الإسرائيلية بتحويل مياه نهر الأردن. وانعقد المؤتمر في القاهرة من 13 إلى 17 كانون الثاني (يناير) 1964. وناقشت القمّة القضية الفلسطينية والكيان الفلسطيني، واتخذت «القرارات العملية في ميدان تنظيم الشعب الفلسطيني، وتمكينه من القيام بدوره في تحرير وطنه وتقرير مصيره…».
Leave a Reply