بين حانا ساترفيلد ومانا تليرسون ضاعت الطاسة وستر الله لبنان من حرب سياسية إسرائيلية بأيدٍ أميركية لإعطاء تل أبيب بالدبلوماسية ما لم تربحه بالاستفزاز والتخويف من حرب وشيكة.
في مقال العدد الماضي، جزمنا بأنه رغم التهويل والتهديد الإسرائيليين قبل إسقاط المقاتلة «أف 16» وحتى بعدها عندما بدت أن طبول الحرب تٌقرَع، جزمنا بسقوط التهويل بحرب تشنها تل أبيب ضد لبنان وربما سوريا، كانت تروج لها بمساعدة الإعلام المرتزق، ثم تراجعت متقهقرة بعد قلق الداخل لديها. وقد ظن نتنياهو أنه مازال لديه هامش للعب على خط النار بالإغارة على سوريا المنشغلة بتحرير ما تبقى من أرضها وطرد الإحتلال الأميركي والتركي، وذلك بدلاً من خوض غمار حرب لا يعلم أحد بحجم تداعياتها.
لكن إسقاط طائرة إسرائيلية من نخبة سلاح الجو، درة تاج العدو، قلب الأمور رأساً على عقب. وحتى وقتها ظن البعض أن نتنياهو المُدان بتهم الفساد وفِي طريقه ربما للسجن على خطى سلفه أولمرت، سيعمل المستحيل لصرف النظر عن فضيحته حتى ولو خاض حرباً مسعورة على طريقة «عليّ وعلى أعدائي»!
غير أن شيئاً جوهرياً تبدَّل بعدها مما اضطر نتنياهو لطلب العون من روسيا، لا أميركا، لكي لا تصل الأمور إلى حافية الهاوية وهذا بحد ذاته نصر نوعي، وربما استراتيجي، إذ من يذكر من جيلنا أن إسرائيل التي لا تكترث للعالم أجمع وترد عسكرياً ومن دون عائق لتحفظ هيبتها وهالتها، تحجم عن ذلك و«تتضبضب» مردوعة؟ فاليوم هو موعد آخر ويبدو أن أسطورة العدو تتحطم بالقطعة في عصر المقاومة ومحورها. فلماذا امتنعت إسرائيل عن الرد مما قد يضرها معنوياً ونفسياً ووجودياً بل حتى أنها وسَّطَتْ موسكو لمنع الحرب الشاملة؟
السبب الأول، وهذا لمن كان يسخر دوماً من عبارة الرد في الزمان والمكان المناسبين، يعود لتصميم سوريا الأسد بعدم السماح للعدو بالتمادي في عدوانه والأخطر من ذلك إسناد الاٍرهاب التكفيري الذي هو في طور الإنقراض على أيدي الجيش العربي السوري والحلفاء في محور المقاومة. فسوريا التي خبر جيشها أقصى أشكال الحروب خلال السنوات السبع العِجاف، لم يعد جيشاً عادياً كما أن ليس لديه ما يخسره بعد هذه الخبرة الطويلة في القتال ضد أخطر الوحوش في الأراضي السورية خصوصاً أنه تمكن من تعزيز دفاعاته بمساعدة الحليف الروسي والإيراني وتواجد قوات المقاومة بكثافة على أرضه. لذلك رغم أن سوريا كانت ترد سابقاً على الاعتداءات الصهيونية والتي لم تحصد نتائج نوعية بسبب تشتت جيشها وانشغاله برد الجراد التكفيري الوهابي، إلا أن الرد هذه المرة جاء في المكان والزمان المناسب وتم بعد تعزيز قدرة الردع السوري المتحرر من القتال على جبهات ذات مساحات شاسعة. بل أن سوريا بدأت تتحدث عن مفاجآت تعدها لإسرائيل على طريقة المقاومة.
ثانياً: موقف سوريا تعزَّز بقدرة المقاومة مع الحليفين اللذين لن يقفا متفرجين في حال شنت إسرائيل حرباً مجنونة. فالمقاومة في جهوزية كاملة عبر جبهتين مفتوحتين وربما أكثر مع وجود تنسيق مع مقاتلين من كل الأرجاء والذين لن يمنعهم مجرد جدار سيتفتت تحت أقدام المقاومين.
ثالثاً، إسقاط مقاتلة روسية يعني الكثير لبوتين الذي بدا موقفه مبهماً من الغزو التركي لمنطقة عفرين لكن تبين أن أردوغان أوقع نفسه، ربما من خلال فخ نصبته موسكو، في مأزق كبير وفيتنام جديدة وقد يطلب هو الآخر وساطة بوتين أيضاً لحل مشكلته والإنسحاب من سوريا نهائياً وبهذا تكون روسيا قد تحكمت بأوراق اللعبة. يبقى الاحتلال الأميركي لمنطقة التنف في شرق سوريا وهذه المشكلة لن تدوم بسبب كثافة التواجد العسكري الروسي وانتصارات الجيش السوري وبسبب احتمال عودة الحرب الباردة وإن بسياق أخف من الحرب السابقة. لكن الموثوق منه هو أن الحرب في سوريا وتغير الوقائع على الأرض قد أنهى إلى الأبد الأحادية القطبية الأميركية التي قضى عليها ترامب بالضربة القاضية.
رابعاً: قلق إسرائيل ليس فقط بسبب إسقاط نخبة مقاتلاتها بأسلوب بسيط على حد تعبيرها وبالتالي إنهاء أسطورة التفوق الجوي الذي تتمتع به من دون حساب ما تخبئه المقاومة في هذا المجال من مفاجآت، بل خوف إسرائيل الأكبر هو أن تبدو صورتها الآن مهزوزة أمام حلفائها الجدد من بني سعود حيث بدا إعلامهم المتصهين «مدبرساً» (depressed) بعد إسقاط الطائرة على طريقة الجنازة في تل أبيب والعزاء عند بني سعود. فكيف ستحميهم إسرائيل من إيران وهي نفسها معرضة، كيف؟
وبعد خيبة أمل إسرائيل جاء دور تيلرسون الآتي من عالم النفط والغاز لكي يقايض لبنان على سيادته ومقاومته بعد أن حاول مساعدة ساترفيلد، حليف 14 آذار مع خلفه فيلتمان السيء الذكر، إقناع لبنان بمنح أراضٍ برية وبحرية لبنانية للعدو. أي أن المقايضة هي بتخلي لبنان عن مقاومته أو عن أراضيه ومتى؟ في عصر انتصار لبنان وقوته الرادعة للعدو؟ لقد وصف تليرسون رئيسه في فترة ما بالأحمق (moron) لكن الأخرق هو من يناقض نفسه بنفسه فيقول في عمان ان المقاومة هي جزء من العملية السياسية في لبنان ثم يطالب اللبنانيين بالإبتعاد عن المقاومة! هل هذا كلام متعقل أم أن الدفاع عن أسرائيل في إدارة ترامب عمى أبصارها وجعلها أهم من مصلحة أميركا؟
وقد أبلى لبنان ولو من غير قصد في موقفه الصلب الموحد ضد المطالب الإسرائيلية وقيامه بالإستقبال الباهت الذي واجه به لتيلرسون الذي شوهد لوحده على الكرسي ينتظر قدوم رئيس الجمهورية. ما أجمل هذا المشهد الذي يتناقض مع استقبالات السنيورة لسياسيي الغرب كالمجرم بلير وخصوصاً المفضلة لديه كونداليسا رايس. وفوراً على عادتهم حبكت النكتة لدى اللبنانيين متندرين بالقول أن تيلر سون عندما غادر بعبدا لمقابلة الرئيس بري بادره بالقول «والإمامو علي معك حق»!
لقد فشل بائع الغاز الأميركي في حماية إسرائيل بسبب المناعة اللبنانية الصادرة عن المقاومة التي حققت المعجزات وخلقت قوة لبنان بقوته وعلى لبنان أن يفتخر بذلك ولا يبقى ناكراً لجميل المقاومة مثل الذي يتبجح اليوم بعدم التحالف معها رغم موقفها المشرِّف عندما كان «مزروباً» في غرفة في مكان ما وحريته مُصادَرة!
Leave a Reply