التسوية السورية معقدة .. وفي الميدان تحوّلات ومتغيّرات
بين التسوية السياسية المعقدّة والجبهات العسكرية المفتوحة، وآخرها معركة الغوطة الشرقية في ريف دمشق، تسير الأزمة السورية نحو مزيد من المتغيّرات، التي تبدو ظاهرياً بمثابة انهيار لكل ما تحقق من تقدّم دبلوماسي خلال الأشهر الماضية، في حين يخفي جوهرها ترتيبات ميدانية، سيكون لها الأثر الكبير على جولات التفاوض المقبلة.
في هذا السياق، يمكن تفسير الانفجارات الأخيرة التي شهدتها الجبهات السورية على امتداد رقعة الصراع الممتدة من حدود الجولان المحتل جنوباً إلى عفرين شمالاً، ومن وادي الفرات شرقاً إلى غوطة دمشق التي استقطبت الاهتمام الدولي الأسبوع الماضي مع بدء عمليات الجيش السوري لاقتحامها.
ولعلّ المواجهة الجوية في أجواء الجنوب السوري مع إسرائيل، والتي كادت تفجّر حرباً شاملة في الشرق الأوسط، لولا التدخل الروسي الفوري، مثلت في الواقع أولى تلك الترتيبات الميدانية، فإسقاط مقاتلة الـ«أف –16» الإسرائيلية بالدفاعات الجوية السورية، سرعان ما فرض قواعد اشتباك جديدة مع دولة الاحتلال التي أمعنت خلال سنوات الأزمة في استهداف العمق السوري بقصف مراكز البحوث العسكرية ومخازن الأسلحة السورية الممتدة من جمرايا إلى القلمون، مع ما يعنيه ذلك من تنامي قدرة الردع، لدى الجانب السوري، والذي من شأنه أن يضع الجنوب بأكمله تحت التهدئة الميدانية، في إطار مناطق خفض التصعيد.
وفي هذا السياق أيضاً، يمكن وضع الاشتباك الأخطر، الذي شهدته منطقة دير الزور، بشبه تزامن مع محاولة التصعيد الإسرائيلية في الجنوب السوري، فالكمين المسلّح الذي أوقع «العشرات» من المقاتلين الروس ودول الكومنولث السوفياتي السابق بين «قتلى وجرحى»، بحسب الأميركيين، شكّل في الواقع جرس إنذار يثير قلق واشنطن أكثر من موسكو.
وحتى الآن، لم يكشف الجانب الروسي عن الخسائر البشرية لذلك الكمين سوى الاعتراف بخمسة قتلى –مع العلم بأن معلومات ميدانية تشير إلى أن غالبية القتلى ينتمون إلى إحدى الفرق الخاصة في الجيش السوري– كما أنّ الروس كانوا شديدي الحرص في التأكيد على أن هؤلاء (أي «مواطني» روسيا والكومنولث) ليسوا ضمن تشكيل عسكري نظامي، والأرجح أنهم متعاقدون من شركات أمنية خاصة، وأنهم بالتالي لم يكونوا في مهمة عسكرية.
هذه التفصيلية الروسية قد يبدو هدفها الظاهر «إخفاء الخسارة»، ومنع تسجيل الطرف الآخر النقاط في «الحرب النفسية» المتواصلة، خصوصاً مع بدء العد العكسي النهائي للانتخابات الروسية، ولكن الهدف الباطن فيها يبدو أهم بكثير، إذ أنها المرّة الأولى التي يجري الحديث فيها عن مقتل عناصر روسية بنيران أميركية –سواء كانت مباشرة أو عبر تشكيل عسكري حليف للولايات المتحدة– وبطبيعة الحال، فأن يكون القتلى من «المدنيين» أو «المتعاقدين» أقل وطأة في الأعراف الدولية، مقارنة باستهداف «عسكريين».
وعلى هذا الأساس، يمكن لموسكو أن تحوّل هذه «الموقعة» إلى قاعدة اشتباك جديدة في الصراع السوري، لاسيما في حال مضت الولايات المتحدة في مخططاتها التقسيمية في منطقة وادي الفرات، فالتدخل الروسي المحتمل، لوأد هذه الاندفاعة الأميركية، سيكون سياسياً هذه المرّة وليس عسكرياً أو ربما يكون حرباً بالوكالة بين حلفاء موسكو وحلفاء واشنطن، يتم خلالها تحييد الوسائط العسكرية المباشرة التي قد تقود في لحظة انفلات معينة «مواطني روسيا والولايات المتحدة إلى الملاجئ النووية»، كما علّق أحد الخبراء العسكريين الروس، العام الماضي، حين سئل عن عدم تدخل الدفاعات الجوية الروسية لإسقاط طائرات هجوم الـ«توماهوك» على سوريا.
عفرين
والمثير للاهتمام أن تحييد جبهتي الجنوب والشرق، ضمن قواعد الاشتباك الجديدة قد ترافق مع ترتيبات روسية على جبهتين حساستين أخريين:
في عفرين، شكّل دخول أولى طلائع الجيش السوري والقوات الشعبية الموالية إلى الجيب الكردي، بعد تفاهمات نادرة بين الحكومة السورية و«وحدات حماية الشعب»، تحوّلاً كبيراً في قواعد اللعبة، يتجاوز الاتفاق السوري–الكردي نفسه، ويطرح تساؤلات حول تسوية روسية–تركية.
وبرغم التهديدات المتبادلة بالحرب بين تركيا وسوريا، طوال الأيام الفائتة، إلا أن رد الفعل التركي، بشكل عام، يشي بقبول ضمني للتسوية المحتملة في عفرين، خصوصاً أن «التحفّظ» التركي المعلن على الاتفاق المفاجئ بين الحكومة السورية و«وحدات الحماية» لم يقترن بأية خطوات معرقلة على الأرض، لا بل أن ما خرج من أنقرة، في خضم هذا التحوّل من حديث عن إمكانية الدخول في اتصالات «ذات طابع أمني» مع الحكومة السورية، يشي بأنّ رجب طيب أردوغان قد ارتضى بـ«الحد الأدنى» للعملية العسكرية التركية في عفرين، وهي تقويض أسس بناء «الدولة الكردية» المحتملة.
وتعدّ المحادثة الهاتفية التي جرت بين رجب طيب اردوغان وفلاديمير بوتين مؤشراً على هذه الصفقة غير المعلنة رسمياً، وهي تسوية ترضي الجميع، لكونها تلبّي الأهداف التركية التي ستكون مطمئنة إلى رفع العلم السوري في عفرين وسحب الأسلحة الثقيلة والمتوسطة من «وحدات الحماية» في هذا الجيب الحدودي، في حين أن سوريا تبدو راضية تماماً عن مقترحات الأكراد، باعتبارها وسيلة لاستعادة السيطرة على عفرين ومنبج في المستقبل، وبالتالي ضرب ركيزة أساسية من ركائز مشروع التقسيم الأميركي، في حين أنها تمثل مخرجاً للأكراد من سيناريوهات «الهزيمة الساحقة» التي كانت تحملها الآلة العسكرية التركية إلى معقلهم الحسّاس.
ريف دمشق
على نحو موازٍ، تسعى روسيا إلى فرض أمر واقع على الأميركيين، من خلال تغيير المعادلة الميدانية في غوطة دمشق الشرقية، سواء من خلال الحسم العسكري المباشر على غرار ما حدث في حلب، أو من خلال التوصل إلى تفاهمات مع شركاء إقليميين للوصول إلى تسوية ميدانية تسهّل بدورها التسوية السياسية.
وعلى هذا الأساس، فتح الجيش السوري جبهة الغوطة على نحو يمهّد إلى حسم عسكري، في وقت تخوض فيه الدبلوماسية الروسية حراكاً حثيثاً لمواكبة هذا الجهد، من خلال طلب اجتماع عاجل لمجلس الأمن الدولي، لبحث الوضع في الغوطة الشرقية.
ولا يقتصر الجهد الروسي، في هذا الإطار، على الشركاء التقليديين في الميدان السوري أو ما بات يسمّى بـ«الحلفاء»، وإنما يأخذ في الحسبان الدور الذي يمكن أن تقوم به جهات أخرى، مثل مصر، التي دخلت بقوة على خط ما يجري في الغوطة، من خلال بيان ملفت لوزارة الخارجية دعت فيه إلى «هدنة إنسانية لإدخال المساعدات الإنسانية وإجلاء الجرحى والمصابين لتجنّب كارثة إنسانية حقيقية». ومن شأن ذلك أن يساعد على الوصول إلى مخرج للتصعيد الحالي، بشكل يلبّي المطالبات الأممية ويحقق في الوقت ذاته تغييراً في موازين القوى في ضاحية دمشق، على نحو يمكن أن يستثمر في المفاوضات الجارية على خط أستانا–سوتشي–جنيف، من خلال تكريس نظام خفض التصعيد.
وبينما تجري هذه العملية المتعددة الجبهات بتأنٍ جديد، فإنّ عوامل التدمير الذاتي للمجموعات الأكثر تشدداً –«داعش» و«النصرة» ومن يدور في فلكهما– بدأت تتبدى في أكثر من مكان وعلى هذا الأساس، بدأ تنظيم «داعش» منذ أيام بمهاجمة «جبهة النصرة» في مخيم اليرموك. ومع أن عدد مقاتلي «جبهة النصرة» هناك لا يتجاوز العشرات، إلا ان الاشتباكات الجارية، منذ أيام في المخيم الفلسطيني، تشي بتكرار سيناريو جرود القلمون من خلال التوصل الى اتفاق يفضي في نهاية المطاف إلى سحب التكفيريين من هذه الرقعة الخطيرة في ضواحي دمشق.
وعلى نحو مشابه، وإنما أكثر خطورة، تستمر الاشتباكات العنيفة بين الفصائل السورية المسلحة في محافظة إدلب، وسط حالات كر وفر وقصف متبادل، بعدما ازدادت حدة المواجهات العسكرية بين فصيلي «جبهة تحرير سوريا»، التي أعلن عن تشكيلها مؤخراً، و«هيئة تحرير الشام («جبهة النصرة» سابقاً).
هذان التطوران، إن استمرا، سيشكلان انتصاراً مجانياً لدمشق و«الحلفاء»، ويحرج جهات إقليمية أخرى من بينها قطر والسعودية، اللتين تبدوان اليوم خارج المشهد تماماً، وسيؤدي بطبيعة الحال إلى فرض أجندات مختلفة على جداول أعمال المفاوضات السياسية.
الجعفري يتوعد مسلحي الغوطة وإدلب بـ«حلب ثانية»
نيويورك – أكد مندوب سوريا لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري خلال جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي حول الغوطة الشرقية، الخميس الماضي، أن الإرهابيين دأبوا على قصف دمشق بالصواريخ، مذكّراً أن العاصمة «تعاني واقعاً مريراً جرّاء القذائف التي تطلقها المجموعات الإرهابية من الغوطة».
وأكد الجعفري أن الحكومة السورية ستواصل مع حلفائها محاربة الإرهاب وفقاً لقرارات الأمم المتحدة، متهّماً الأمم المتحدة بأنها تدير ظهرها للعدوان التركي المباشر على مدينة عفرين.
وشدد الجعفري على «أن الغوطة وعفرين ستكونان حلباً ثانية، لأن الحكومة السورية لن تقبل بابتزاز المجموعات الإرهابية».
وكان المندوب الروسي في مجلس الأمن فاسيلي نيبينزيا قال في مستهل مناقشة مشروع قرار سويدي–كويتي يدعو لوقف القتال في الغوطة الشرقية لمدة 30 يوماً، إن المسلّحين في سوريا يتمركزون في المنشآت الطبية والتربوية، مضيفاً أنه يمكن الاطلاع على القصف الذي يطال العاصمة السورية دمشق وزيارة أماكن هجمات المسلّحين.
وأشار المندوب الروسي إلى أن المسلّحين اتخذوا المدنيين في الغوطة الشرقية رهائن ومنعوهم من المغادرة.
وقال منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في سوريا إن على مجلس الأمن أن يقتنع بضرورة وقف لإطلاق النار في منطقة الغوطة الشرقية المحاصرة.
أما ممثلة مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن، فقد اتهمت الحكومة السورية بالاعتماد على روسيا «من أجل قهر الشعب الجائع المحاصر في الغوطة الشرقية»، مبديةً دعمها لمشروع القرار السويدي–الكويتي، ودعت للتصويت فوراً عليه»، غير أن موسكو تمكنت من تأجيل التصويت بطلب تعديل الصيغة المطروحة لوقف القتال.
Leave a Reply