عاجلاً أم آجلاً، ستصل التحقيقات التي يقوم بها المحقّق الأميركي الخاص روبرت مولر إلى إدانة قادة الحملة الانتخابية لدونالد ترامب بتهمة التورّط في اتصالات مع موسكو لدعمه في الوصول إلى الرئاسة الأميركية، وهذا ما سيدفع الرئيس الأميركي إلى الاستقالة بدلاً من انتظار قرار العزل له في داخل الكونغرس الأميركي. تماماً كما حدث مع الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون خلال حملته الانتخابية في العام 1972 بشأن فضيحة التجسّس المعروفة باسم «ووترغيت»، حينما استمرّت التحقيقات لأكثر من عامين اضطرّ بعدها نيكسون للاستقالة من منصبه في صيف العام 1974. فما يحتاجه قرار عزل الرئيس الأميركي هو توفّر نسبة ثلثي عدد أعضاء مجلس الشيوخ لتأييد هذا القرار، أي هناك حاجة الآن لموافقة حوالي 15 عضواً من الحزب الجمهوري (إضافةً للأعضاء الديمقراطيين) على قرار عزل ترامب لكي تتوفّر الغالبية اللازمة دستورياً.
وسيضع الحزب الجمهوري نفسه في أزمة سياسية وشعبية كبيرة إذا ما واصل دعمه لترامب في موقع الرئاسة، خاصّةً أنّ الانتخابات «النصفية» القادمة في شهر نوفمبر ستقرّر مصير كل أعضاء مجلس النواب وثلث عدد أعضاء مجلس الشيوخ، وبأنّ ما حدث في العام الماضي من انتخابات فرعية في ولايات آلاباما وفيرجينيا ونيوجرسي، لم يكن لصالح الجمهوريين بسبب ترامب وسياساته.
ويبدو أنّ المحقّق مولر يتبع أسلوب المراحل في إعلان نتائج التحقيقات، بحيث تتولّد القناعات السياسية أولاً بالمحصّلة النهائية لها قبل إخراجها كاملةً للعلن، وبحيث يُصبح السؤال لاحقاً بعد توفّر الإدانة لقادة في حملة ترامب: متى وماذا كان الرئيس يعلم عن الاتصالات الروسية مع حملته الانتخابية؟، وهو أمرٌ مشابه لما حدث أيضاً مع نيكسون قبل استقالته.
لائحة الاتّهام التي أعلنتها وزارة العدل الأميركية ضدّ 13 مواطناً روسياً لم تكن محطّة نهائية لرحلة التحقيقات، بل كانت قوّة دفع مهمّة لمواصلة التحقيق الذي بدأ يصل إلى دائرة العائلة الخاصّة بترامب، كما أُذيع عن تحقيق يتمّ الآن مع جاريد كوشنر، زوج ابنة الرئيس ترامب، حول مسائل استثمارية لصالح شركاته مع دول أخرى، بعد فوز ترامب بالرئاسة، وهو ما يُحاسب عليه القانون الأميركي بسبب استغلال الموقع السياسي لمصالح خاصّة.
ويبدو أيضاً، أنّ المحقّق مولر يدين بعض الأشخاص في قضايا قانونية خاصّة لا علاقة لها بالتدخّل الروسي في الانتخابات، من أجل المساومة معهم على إعطاء معلومات تتعلّق بمهمّته الأساسية وهي الاتصالات السرّية مع موسكو. وهذا ما حدث مثلاً مع المدير السابق لحملة ترامب، بول مانافورت وشريكه ريتشارد غيتس، اللذين جرى اتّهامهما بتبييض الأموال وعدم كشف حسابات مودعة في الخارج، إضافةً إلى ما جرى مع مايكل فلين الذي أُجبر على الاستقالة من منصب مستشار ترامب للأمن القومي بتهمة الكذب على مكتب التحقيقات الفيدرالي، ومع جورج بابادوبولوس الذي كان مسؤولاً عن السياسة الخارجية في حملة ترامب الانتخابية. ولم يسلم أيضاً الابن البكر لترامب من التحقيقات حول اجتماعات جرت قبل انتخابات نوفمبر 2016، في برج ترامب، مع محامية روسية تعهّدت بتوفير معلومات تساعد على نجاح ترامب، ثمً ما كشفه ستيف بانون بعد إقالته عن هذه الاجتماعات.
إنّ ما يحافظ على استمرار ترامب في «البيت الأبيض» حتّى الآن هو اعتماده على قوى فاعلة جداً في الولايات المتحدة. فهو يعتمد أولاً على قاعدته الشعبية التي هي مزيج من الأنجيليين المحافظين (ومنهم نائبه مايك بنس) والجماعات العنصرية الحاقدة على الأفارقة واللاتينيين والمسلمين، ويعتمد ترامب أيضاً على دعم المؤسّسة العسكرية (البنتاغون) حيث أشرك في إدارته رموزاً مهمّة منها وزاد في ميزانيتها مبالغ ضخمة حتّى وصلت إلى حوالي 700 مليار دولار، رغم العجز الكبير في الميزانية الأميركية والتخفيض الذي حصل في مشروعات مهمّة صحّية واجتماعية وتربوية. أيضاً، يعتمد ترامب على دعم قوّتين ضاغطتين في الحياة السياسية الأميركية وفي الكونغرس، وهما «لوبي الأسلحة» و«اللوبي الإسرائيلي» حيث لكليهما تأثيرات كبيرة على الجمهوريين والديمقراطيين معاً، إضافةً إلى عددٍ كبيرٍ من الشركات والمصانع الكبرى التي تستفيد الآن من برامج وسياسات ترامب الداخلية والخارجية.
فهناك صراعٌ خفيّ كان في الانتخابات الرئاسية الأميركية بين معسكرين من الشركات والمؤسّسات الكبرى التي تقوم عليها الحياة السياسية الأميركية. وقد نشأت لبنات هذا الصراع بين «معسكريْ النفوذ» في أميركا مع نهاية عقد الثمانينات حينما انهار الاتحاد السوفياتي، وسقطت معه حقبة الحرب الباردة التي تعاملت معها كل مواقع النفوذ بالمجتمع الأميركي وكأنّها حربٌ مستمرّة إلى أجلٍ غير محدّد زمنياً.
فالتحوّل الذي حدث بعد سقوط المعسكر الشيوعي تمثل في أنّ المجتمع الأميركي بدأ يشهد فرزاً بين من كانوا يستفيدون من «الحرب الباردة» ومن «الحروب الساخنة» المتفرّعة عنها في بقاع العالم، وبين مجموعات أخرى في أميركا وجدت مصلحةً في إشاعة مناخ «العولمة» ومحاولة تثبيت الريادة الأميركية للعالم عبر التحكّم بالتجارة العالمية وأسواق المال وصناعة التكنولوجيا وفق نظرية العالم هو «قرية صغيرة واحدة»!
هذا المعسكر «المالي/التجاري/التقني»، الذي يمكن تسميته اختصاراً بمعسكر «السلام»، وجد في الحزب الديمقراطي مظلّةً لمفاهيمه وأجندته بعدما كان معسكر «صناعة الحروب» قد انخرط مع الحزب الجمهوري، في حقبة رونالد ريغان وما تلاها من عهد جورج بوش الأب، وهي حقبة شهدت طيلة 12 عاماً تصعيداً شاملاً في الصراع مع الاتحاد السوفياتي وحروباً ساخنة امتدّت من أفغانستان إلى إيران والعراق ومنطقة الخليج، إلى الغزو الإسرائيلي للبنان، ثمّ إلى حرب الخليج الثانية وتداعياتها الإقليمية، وهي حروب أثمرت كلّها نموّاً هائلاً في صناعة وتصدير الأسلحة وأدّت إلى التحكّم بالثروة النفطية وتوظيف ارتجاج أسعارها صعوداً وهبوطاً وتجارة.
ثمّ نجح «معسكر السلام» في إيصال بيل كلينتون للرئاسة الأميركية في العام 1992، فكانت حقبة التسعينات هي حقبة «العولمة» وانتعاش الاقتصاد الأميركي والتجارة العالمية، بينما انخفضت في هذه الفترة ميزانية وزارة الدفاع الأميركية وعوائد شركات الأسلحة والنفط والصناعات الحربية.
وكما كانت فترة حكم الديمقراطيين أيام جيمي كارتر (1976–1980) متميّزة بسعيها لتحقيق تسويات سياسية لأزمات دولية، ولمصالح ورؤى أميركية طبعاً، كذلك كانت حقبة كلينتون (1992–2000)، وسمة فترة حكم أوباما (2008–2016)، بينما طغت الحروب على سمات حكم الحزب الجمهوري في الثمانينات وفي فترتيْ حكم بوش الأب ثمّ بوش الابن. لذلك، كان فوز ترامب مهمّاً في إطار الصراع بين «المعسكرين» داخل المجتمع الأميركي، حيث يستفيد «معسكر الحروب» الذي يدعم الحزب الجمهوري من السياسات التي عليها ترامب والحزب معاً.
أيضاً، هناك متغيّرات جارية في الحياة السياسية الأميركية منذ 11 أيلول (سبتمبر) 2001، حينما ارتبط موضوع الأمن الداخلي الأميركي بحروب كبيرة في العراق وأفغانستان، وبمسائل لها علاقة بالعرب وبالمسلمين وبالأقليات الدينية والعرقية في أميركا، إضافةً للدور الخطير الذي قام به من عُرِفوا باسم «المحافظين الجدد» في صنع القرار الأميركي وفي تغذية مشاعر الخوف لدى عموم الأميركيين، ممّا دعم أيضاً الاتّجاه الديني المحافظ في عدّة ولاياتٍ أميركية، خاصّةً بعد فوز باراك أوباما بمنصب الرئاسة في العام 2008 وما سبّبه ذلك من عودة مشاعر العنصرية لدى بعض الأميركيين، وخوفهم على نهاية عصر «أميركا البيضاء البروتستانت الأنغلوسكسون».
فالعنصريةٌ عميقة داخل المجتمع الأميركي، وترامب كان وما زال يدرك دورها في حملاته الانتخابية وفي خطبه وتغريداته بعد انتخابه. وقد حدثت في السنوات الأخيرة ممارسات عنصرية كثيرة ضدّ الأميركيين الأفارقة، وهي عنصريةٌ متجدّدة الآن ضدّ كل أنواع المهاجرين الجدد من غير الأصول الأوروبية، وضدّ الأقليات ذوات الأصول الدينية الإسلامية، فكيف لو اجتمعت مع ذلك كلّه فعالية شركات ومصانع وقوى ضغط ومؤسّسات مالية تبحث عمّن يخدم مصالحها الداخلية والخارجية؟
إنّها الآن فترة سياسية هامّة جدّاً في حاضر أميركا ومستقبلها، والتغيير الحقيقي لن يحدث فيها بعزل ترامب أو استقالته، فنائبه ليس أفضل حالاً منه، بل استحقاق التغيير ستكون مؤشّراته في انتخابات نوفمبر القادمة، وفي دور الجيل الأميركي الجديد الذي لعب دوراً هامّاً في انتخابات العام 2008، فأوصل أميركياً أفريقياً ابن مهاجر مسلم إلى البيت الأبيض، لكن التغيير في المجتمع لم يتحقّق بعد!
Leave a Reply