سعد الحريري أسير.. سعد الحريري محرّر! المشهد سوريالي بامتياز؛ رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، الذي حلّ في ٤ تشرين الثاني ٢٠١٧ ضيفاً «محتجزاً» على السعودية، وزعيماً لبنانياً «منبوذاً» من قبل نظام آل سعود، حلّ في ٢٨ شباط ٢٠١٨ «ابناً» و«رئيس دولة» على يمين الملك سلمان بن عبد العزيز، بفارق 115 يوماً بالتمام والكمال.
المشهد السعودي–الحريري السوريالي يختزل مشهداً أكثر سوريالية واتساعاً، يرتبط بالسياسات الإقليمية للنظام السعودي الذي كرّس في «موقعة» الاحتجاز الشهيرة لرئيس الحكومة اللبنانية – التي ترافقت مع «مذبحة» الإقالات والاعتقالات للأمراء وكبار المسؤولين – فشلاً استراتيجياً تجاوز الملف اللبناني، باتجاه خسارة ملفين آخرين، أولهما في العراق، حيث فشلت محاولات الاختراق السعودية من بوابة «التيار الصدري» وغيره، وثانيهما في اليمن، حيث أجهضت سريعاً «الفتنة» التي اتخذت الرياض الرئيس الراحل علي عبد الله صالح أداة لها.
وعلى مدى أوسع، أتى الفشل الاستراتيجي الثلاثي، ليكمل مشهد تراجع النفوذ السعودي، سواء خليجياً، حيث لم تؤت قرارات الحصار فعلها لتطويع الجار القطري، أو على المستوى الأوسع المتصل بالصراع مع إيران أو بالحرب الدائرة في سوريا وعليها… أو حتى مع العملاق المصري الذي تقلّص الحضور السعودي فيه خلال الأشهر الماضية، بقدر تقلّص حجم المساعدات الاقتصادية التي قدّمت لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي في السابق.
ربما فرض الانقلاب المتوقع في مشهد السياسة الخارجية السعودية، نتيجة للسياسات المتهوّرة التي انتهجها «حكم الصبية»، مقاربة جديدة، تشتمل على بعض الواقعية السياسية، لاسيما في الملف اللبناني.
لعلّ هذا التهوّر هو ما جعل ثامر السبهان، قبل ما يزيد على الثلاثة أشهر، يمعن في ارتكاب خطأ صغير، ولكنه قاتل في الوقت ذاته، حين قارب السياسة الخارجية تجاه لبنان بطيش، ينمّ عن انعدام خبرة.
هذا الخطأ القاتل، كان خطوة، أو «زلّة قدم»، قد تبدو هامشية إذا ما قيست بالمشهد العام ولكنها جوهرية حين يتعلق الأمر بملف حساس مثل الملف اللبناني، فثمة من يعتقد أن السعودية كانت قادرة على قلب المشهد كلّياً لو أنّ الحريري، على سبيل المثال، أعلن استقالته من بيروت، بناء على طلب سعودي لا يمكن رفضه قبل توجهه إلى الرياض. لكنّ ما حدث كان العكس، فالسابقة الدستورية التي تمثلت في إعلان بيان الاستقالة من الخارج شكلت في الواقع الأساس الذي بنيت عليه الحملة الدبلوماسية الحثيثة التي بذلت لـ«تحرير» الرئيس «المحتجز».
على هذا الأساس فقط، يمكن فهم الانعطافة المستجدة للسعودية تجاه الملف اللبناني والتي عكستها زيارة المبعوث السعودي الجديد –خليفة السبهان– نزار العلولا، الذي اتسمت أجواؤها، ولو ظاهرياً، بإيجابية مفرطة بحسب ما تبدى في التصريحات التي تلت لقاءاته مع القادة السياسيين في لبنان.
ومع ذلك، لا يمكن بأي حال من الأحوال، مقاربة الانفتاح السعودي الجديد سوى في إطار إعادة التموضع إقليمياً، من البوابة اللبنانية، حيث لا تزال الرياض تمتلك بعض أوراق القوة في اللعبة الداخلية سواء من خلال جزء من الشارع السني الموالي لها (أشرف ريفي نموذجاً) وبعض من الشارع المسيحي (سمير جعجع)، أو من خلال تقاطع المصالح المحتمل مع الحريري نفسه، الذي لا يمكن أن يستدرك خسائره المُحتملة في الانتخابات المقبلة إلا من خلال الحاضنة السعودية القادرة على جمع المتناقضات، على النحو الذي يحد من نزيف المقاعد المتوقع في معسكر ما كان يعرف يوماً بـ«قوى 14 آذار».
مفتاح العودة
ومما لا شك فيه، ضمن هذا الإطار، أن ثمة مصلحة متبادلة بين الحريري وآل سعود، جعلت من الممكن تجاوز موقعة الرابع من تشرين الثاني، فالضغوط السياسية التي واجهها رئيس الحكومة بعدما خُلعت عنه العباءة السعودية، جعلت الخيار الوحيد المتاح أمامه هو التقارب أو حتى التحالف مع «حزب الله»، لضمان بقائه ضمن المشهد السياسي، وهو امر دونه مخاطر عدة، مرتبطة بالقاعدة الشعبية الحائرة بين «الصقور» و«الحمائم».
وفِي الجهة المقابلة، فإن السعودية تدرك جيداً أن الحريري هو مفتاح عودتها إلى المشهد السياسي اللبناني، مهما تعدد الحلفاء الآخرون، وذلك بالنظر إلى الحيثية التي ما زال يمتلكها بصفته الامتداد السياسي للشهيد رفيق الحريري.
انطلاقاً من ذلك، فإن السعودية لا تمتلك من خيارات واقعية، بعد الهزائم السياسية المتلاحقة، سوى ترميم العلاقة مع سعد الحريري، كمرحلة أولى لترميم ما تهاوى من نفوذها الإقليمي.
ولعل ما صرّح به محمد بن سلمان في مقابلته مع الصحافي الأميركي ديفيد ايغناسيوس في صحيفة «واشنطن بوست»، يشكل المفتاح، أو كلمة السر، لفهم المقاربة السعودية الجديدة.
ولي العهد السعودي قال حرفياً إنّ «الحريري الآن في وضع أفضل في لبنان، مقارنة بميليشيات حزب الله»، وهو تصريح برغم «سورياليته» المعبرة عن انسلاخ السياسة السعودية عن الواقع، وعجزها عن فهم المتغيرات القائمة، إلا أنه يعكس في الحقيقة الأهداف السياسية المستجدة في مرحلة ترميم النفوذ.
الفرصة المتبقية
ولعل الحديث عن «قوة» الحريري، قياساً إلى «حزب الله»، يحمل في طياته رسالة سياسية واضحة إلى الحليف اللدود لمحمد بن سلمان، حيث سبق للحريري أن قال منذ أيّام إنه لا يملك المال –أو ما يكفي منه– للإنفاق على الحملة الانتخابية، وفحوى تلك الرسالة هو أن الرياض عقدت العزم على تعويمه سياسياً، أملاً في تغيير المعادلة الحالية وتصعيد الضغط على «حزب الله»، وبالتالي إيران.
ولعل هذا الخيار بالنسبة إلى السعوديين هو الفرصة الوحيدة المتبقية في آخر حجر مفتوح على طاولة الشطرنج الإقليمية.
وهذا وجه آخر من أوجه «السوريالية» السعودية التي تواجه سياستها الخارجية «تأثير الدومينو»، أمام لاعبين إقليميين ودوليين يجيدون قواعد اللعبة، ودليل آخر على أن من يقود السياسات السعودية في عهد ما بعد سعود الفيصل هم مجرد هواة صبية.
وأيّاً تكن الحال، فإن المقاربة السعودية الجديدة لا يمكن إلا أن تثير القلق. وبالرغم من أن الخطوات الاخيرة تبدو موجهة نحو هدف محدد، وهو تقويض «حزب الله»، وقطع الطريق عليه أمام مكاسب انتخابية مؤكدة، إلا أن القلق الحقيقي يفترض أن يكون لدى سعد الحريري نفسه، الذي يخطئ إن قارب الانعطافة السعودية بطمأنينة، وإن أغراه الاستقبال الرسمي في زيارته الاخيرة للبلاط الملكي.
ولعل مرد القلق المفترض أن يكون الحريري مدركاً له، هو أن الإيجابية السعودية المستجدة –والشاذة– تجاهه، تنطلق من مصلحة آنية، تجعل ترميم ذيول ما حدث في الرابع من تشرين الثاني مجرد استثمار سياسي قصير الامد لخدمة استثمار سياسي طويل الامد، لا يبدو في بيت الوسط، بقدر ما هُو في معراب، ذلك أن سمير جعجع بات الخيار المفضل لمحمد بن سلمان إلى جانب صقور الطائفة السنية.
ولا شك في أن التقاطع بين ابن سلمان وجعجع بات راسخاً أكثر فأكثر، طالما أن الاثنين يقاربان «حزب الله» بمنطق «العدو» وليس «الخصم» كما يفعل الحريري منذ عودته سالماً من الحجز السعودي… ولعل هذا التقاطع يحمل بعداً أكثر استراتيجية إذا ما رُبط بالخيارات الإقليمية الأكثر اتساعاً، والمرتبطة بالتموضعات المتصلة بالصراع المفتوح مع إيران… والتحالف غير المعلن مع إسرائيل.
Leave a Reply