معركة الأكثرية النيابية
كانت انتخابات رئاسة الجمهورية في لبنان، صناعة خارجية، وهذا هو تاريخها منذ الاستقلال ولا يستثنى عهد رئاسي من ذلك، لتتحول الانتخابات النيابية فيه إلى اهتمام دولي–إقليمي، لأنها على ضوء نتائجها تتقرر الأكثرية النيابية التي منها يسمى رئيس الحكومة، وتتشكّل الحكومة وتصدر قوانين عن مجلس النواب.
الأكثرية النيابية
قبل اتفاق الطائف، كان رئيس الحكومة يُسمّى من قبل رئيس الجمهورية دون استشارات نيابية ملزمة، أما بعده فبات الدستور يطلب من رئيس الجمهورية إجراءَها والالتزام بها.
لم يكن الأمر معقداً في ظل الوجود السوري –العسكري والأمني– في لبنان، فكانت الإدارة السورية للملف اللبناني تتولى الأمر بجميع مراحله، فتقيم التحالفات النيابية وتسمي المرشحين وتحسم منصب رئيس الوزراء. أما بعد انسحاب القوات السورية، فإن أول انتخابات رعتها أميركا التي كان رئيسها جورج بوش الابن يروج للديمقراطية ولمشروع «الشرق الأوسط الكبير». جرى حينها تركيب تحالف رباعي مكوّن من حركة «أمل» و«حزب الله» و«تيار المستقبل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، وأسفرت الانتخابات النيابية التي أشرف عليها موفد الأمم المتحدة تيري رود لارسن عن منح الأكثرية النيابية لقوى «14 آذار» بعدما اختلطت الأوراق الداخلية حول اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فقامت حكومة فؤاد السنيورة التي شارك فيها «حزب الله» رسمياً للمرة الأولى، وبدأت الخلافات الداخلية تتفاقم وتتأزم.
السيطرة على القرار
ظنّ «الثنائي الشيعي»، حركة «أمل» و«حزب الله»، أنهما بمشاركتهما في تحالف رباعي يمنعان وقوع فتنة مذهبية سنّيّة–شيعية، خُطّط لها بدقة في إطار قرار أميركي–إسرائيلي بنزع سلاح «حزب الله»، باشرت حكومة السنيورة بتنفيذ القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 2 أيلول 2004، والذي نص على انسحاب القوات السورية، ونزع سلاح الميليشيات والمقصود المقاومة، لكن الحكومة اصطدمت برفض من داخلها، كما من رئيس الجمهورية العماد إميل لحود، وتنبّه «حزب الله» على أن تحالفه الرباعي، ساهم في أن يمسك الفريق الحليف لأميركا بالقرار داخل الحكومة فحصلت استقالة الوزراء الشيعة لنزع الشرعية الدستورية عن الحكومة بخروج مكون طائفي وازن منها، لكن السنيورة وحلفاءه الداخليين والإقليميين والدوليين رفضوا التعاطي مع الاستقالة كحدث وطني يستدعي تشكيل حكومة جديدة، فاستمرت الحكومة بعملها لتخلق شرخاً سياسياً وانقسامات ووتوترات رافقتها اعتصامات وتظاهرات في وسط بيروت.
انتخابات 2009
بعد أربع سنوات، أقيمت الانتخابات النيابية عام 2009، والتي سبقها اتفاق الدوحة الذي جاء نتيجة لأحداث 7 أيار 2008، عندما نزل «حزب الله» وحلفاؤه بسلاحهم في شوارع بيروت وبعض المناطق لإرغام الحكومة العودة عن قرارها بشأن تفكيك شبكة الاتصالات السلكية للمقاومة، وهذا ما حصل. تدخلت قطر وجمعت القادة اللبنانيين لديها، وجرى الإتفاق على انتخاب قائد الجيش آنذاك العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية وتشكيل حكومة لقوى «8 آذار» ثلثها «الضامن» بمشاركة «التيار الوطني الحر» فيها وللمرة الأولى، وأقيمت الانتخابات استناداً إلى قانون 1960، والذي كان مطلباً مسيحياً، ولكن نتائج الانتخابات جاءت غير مشجعة للمسيحيين أنفسهم الذين وجدوا أن غالبية نوابهم يفوزون بأصوات المسلمين وهم من يرشحونهم، إضافة إلى أن الأكثرية النيابية ظلّت إلى جانب «تيار المستقبل» وحلفائه، ولم تهتز إلا عندما غادرها النائب وليد جنبلاط وكتلته النيابية بعد إخراج الرئيس سعد الحريري من رئاسة الحكومة بالثلث المعطّل في مطلع 2011 أثناء لقائه بالرئيس الأميركي باراك أوباما، ليخلفه الرئيس نجيب ميقاتي بعد أن اصطف جنبلاط مع جزء من كتلته مع قوى «8 آذار»، وأتت النتيجة لغير صالح الحريري.
الانتخابات الحالية
تجري الانتخابات المقررة في ٦ أيار القادم وفق قانون جديد يعتمد النظام النسبي للمرة الأولى في لبنان مع الصوت التفضيلي، والاقتراع للائحة واحدة، وهو تطور في طريق إصلاح النظام السياسي، حيث ستحصل هذه الانتخابات ولا أحد يمكنه توقّع نتائجها مسبقاً، لاسيما وأن الغموض لا زال يكتنف التحالفات قبل أقل من أسبوع على إقفال باب الترشيحات.
ومن المعروف أن التحالفات هي التي تعطي مؤشرات الفوز بالمقاعد في مختلف الدوائر الانتخابية، ويبدو أن الأحزاب والتيارات السياسية تعد لها بدقة وجدية من خلال ما يسمى «الماكينات الانتخابية» التي يقع على عاتقها إدارة العملية الانتخابية في الأحزاب، والتي سيكون لها الدور الأساسي لتجميع أكبر عدد من الأصوات لتأمين الحاصل الانتخابي وتوجيه الصوت التفضيلي، كي لا يحصل خرق للوائح وسقوط مرشحين، وهو ما بدأته الأحزاب والتيارات السياسية التي أنهت عملية الترشيحات بشكل متقدم، حيث يبقى «تيار المستقبل» و«التيار الوطني الحر» اللذين ينتظران موضوع التحالفات سواء بينهما أو مع قوى أخرى.
السعودية تستطلع
ومع اقتراب موعد الاستحقاق الانتخابي لجهة الترشيحات وإنجاز التحالفات وتركيب اللوائح التي يجب أن تنتهي قبل نهاية آذار الحالي، فإن السعودية دخلت على خط الانتخابات النيابية، لجهة استطلاع ما يجري حولها واستعادة توازنها على الساحة اللبنانية. إذ ستحرص المملكة على أن لا تأتي النتائج لصالح «حزب الله» وحلفائه، وتمكين إيران من توسيع نفوذها في لبنان على وقع ترددات استقالة الرئيس الحريري الغامضة من الرياض مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) حيث طلب منه التنحي لأن أداءه السياسي وإدارته أوقعا لبنان في يد «حزب الله» بعد انتخاب حليفه العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية، وتشكيل حكومة للحزب الكلمة الفصل فيها في ظل استمرار مشاركته في الحروب الإقليمية.
أُنقذ الحريري من ورطته في السعودية بغطاء غربي–إقليمي وتوافق داخلي أثمر بياناً عن الحكومة ينأى فيه لبنان بنفسه عن صراعات ومحاور المنطقة، لكن هذا لا تراه السعودية كافياً، إذ عليها أن تتابع ملف الانتخابات، فأوكلت إلى موفدها إلى لبنان نزار العلولا أن يمسك به، بعد أن أقصي تامر السبهان عنه وتوقفت تغريداته المتهورة التي سببت توتراً في العلاقة مع السعودية وبين القوى السياسية في لبنان كاد أن يشعل صراعاً داخلياً لو قبل الرئيس عون استقالة الحريري.
صفحة جديدة
تحاول السعودية استدراك خسائرها السياسية في لبنان، وأن تحافظ على نفوذ حلفائها فيه، وهي تسعى إلى جمعهم ولكن بأسلوب مختلف عما دأبت عليه سابقاً من خلال «الآحادية السنية»، حيث ستتبع المملكة سياسة الإنفتاح على القوى السياسية دون «حزب الله» وحلفائه، وينكب موفدها العلولا على دراسة التحالفات الانتخابية داخل الساحة السّنّية دون أن تحصر نفوذها بطرف واحد هو «تيار المستقبل» الذي يبدو أنها باتت تريده شريكاً مع آخرين، وربما هذا ما يفسر دعوة السعودية للحريري إلى زيارة الرياض وقلب صفحة أزمة الاستقالة الغامضة، لاسيما وأن الحريري أعلن مؤخراً أنه لن يتحالف مع «حزب الله».
وتأتي الزيارة بعد جفاء شهدته العلاقات بين الجانبين إثر إعلان الحريري استقالته في 4 تشرين الثاني الماضي في كلمة متلفزة من الرياض، وذلك قبل أن يتراجع عنها لدى عودته إلى بلاده.
ويبدو أن الزيارة تهدف إلى إعادة الاعتبار للحريري باستقبال الملك سلمان وولي العهد محمد بن سلمان، واعتماد التوجهات التي ستتبع في الانتخابات التي قال الحريري إنه يدخلها مفلساً قبل أسبوعين، فهل ستدعمه المملكة مالياً كما في السابق للفوز في الانتخابات وتأمين الأكثرية؟
طهران–الرياض
لا شك أن الانتخابات النيابية تطال طهران والرياض عبر حلفائهما في لبنان، والأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله لا يخفي التحالف مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية والدعم الذي تقدمه لحركات المقاومة والنصر الذي يحقّقه محورها، ولكنه يؤكد دوماً أن طهران لم تتدخل يوماً في العملية السياسية الداخلية في لبنان كما كشف السيد نصرالله عن اجتماعات تجري في السفارتين السعودية والأميركية في بيروت حيث تشكّلت فيهما إدارة لمتابعة الانتخابات، وهو ما جاء الموفد السعودي من أجل الاطلاع عليه لتحقيق «المهمة الصعبة»، وهي إعادة جمع ما يسمى «14 آذار» رغم العقد المستعصية مثل فك تحالف «التيار الوطني الحر» مع «تيار المستقبل» وإعادة العلاقات إلى مجاريها بين «المستقيل» و«القوات اللبنانية» المتهمة بالتحريض على الحريري في الرياض.
Leave a Reply