الأمير–الملك يزور القاهرة ولندن .. و«التتويج» في واشنطن
حُسم الأمر. محمد بن سلمان ملكاً غير متوّج حتى الآن، ولكنه الملك الفعلي، بغياب والده الذي بات يكثر من أوامر إنابة ولي العهد بإدارة شؤون المُلك والعباد.
هو الطريق الأمثل لتجنّب خضات انتقال الحكم بين الأب والابن على الطريقة القطرية مثلاً، حين تنحّى الأمير حمد لصالح ولي عهده الأمير تميم قبل نحو أربعة أعوام.
ويبدو واضحاً أن تولية بن سلمان العرش، بشكل رسمي، ما زالت تقاس بالكثير من الحساسيات الداخلية والخارجية، التي اتضحت معالمها بشكل واضح خلال الأشهر الماضية.
وعلى المستوى الخارجي، فثمة حاجة من جانب الأمير الشاب لتغطية فشله في الكثير من الملفات، بعد توالي الخسائر السعودية على المستوى الاستراتيجي في ثلاثة من أهم المحاور الإقليمية، وهي اليمن والعراق ولبنان، إضافة إلى الفتور الذي اعترى المحور الإقليمي الذي تقوده المملكة، لاسيما العلاقات مع مصر، ناهيك عن المتغيرات التي تشهدها الأزمة السورية، والتي جعلت السعودية خارج المعادلة.
يضاف إلى ما سبق أن التعثّر الاستراتيجي في الملفات الإقليمية قد فرض إيقاعه على طموحات الأمير الشاب، بخلق شراكة تطبيعية مع إسرائيل، في ظل المكابح الإقليمية والدولية التي أرستها الأزمة الخليجية، والجدل المتصاعد في الولايات المتحدة بشأن الدور السعودي في هجمات 11 أيلول الإرهابية، وتنامي الانتقادات الدولية للسعودية بسبب المجازر المرتبكة في اليمن بأسلحة بريطانية وأميركية.
بهذا المعنى، يمكن فهم المحطّات الثلاث من الجولة الخارجية (القاهرة، لندن، وواشنطن) في سياق سعي ولي العهد السعودي لترميم صورته، خارجياً، خصوصاً بعدما تحوّل إلى أشبه بـ«قاطع طرق» أو «زعيم مافيا» حين احتجز رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري في السعودية، إلى جانب أمراء ورجال أعمال سعوديين، وهو ما أثار انزعاجاً خارجياً، وانتقادات حادة، لم تنجح العبارات الدبلوماسية في تلطيفها.
وعلى هذا الأساس، فإنه ليس تفصيلاً، أن الجولة الخارجية لمحمد بن سلمان سبقتها ترتيبات حثيثة لترميم تلك الصورة العابرة للقارات، من بوابة استقبال رئيس الحكومة اللبنانية استقبال «رجل دولة»، وإجراء التسويات مع نزلاء الـ«ريتز–كارلتون» من أمراء ورجال أعمال، ومؤخراً إجراء تغييرات حساسة في المناصب العسكرية العليا من خلال تصعيد جيل أصغر سنّاً وأكثر ولاءاً للملك غير المتوّج، بدءاً برئيس الأركان وقيادات الدفاع الجوي والقوات البرية ومسؤولين بارزين في وزارتي الخارجية والدفاع.
التطبيع مع إسرائيل
وبعيداً عن حفاوة الاستقبال التي وجدها في القاهرة، والتي جعلت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يتجاوز البروتوكولات، ويستقبل بن سلمان بنفسه في المطار، ويقيم له مأدبة العشاء الرسمي، بصفته ملكاً وليس ولياً للعهد… وبعيداً أيضاً عن استعراضات «التسامح الديني» التي جعلت الأمير الشاب يحرص على زيارة الكاتدرائية القبطية، ويلتقي البابا تواضروس، وحرصه كذلك على حضور حفل موسيقي في دار الأوبرا، فإنّ زيارة الملك غير المتوّج للعاصمة المصرية حملت ما هو أخطر.
فإلى جانب الهديّة القيّمة التي منحها إياها النظام في مصر، من خلال استصدار قرار من المحكمة الدستورية بـ«سعودية» جزيرتي تيران وصنافير، وبالتالي حسم الجدل نهائياً بشأن هذا الملف، فإنّ الهديّة المصرية الأثمن، على المستوى الاستراتيجي، تمثلت في منح ابن سلمان ألف كيلومتر مربع من سيناء، ضمن مشروع «نيوم»، الذي يجمع السعودية والأردن ومصر…
في المقابل وقعت اتفاقات لإنشاء صندوق سعودي–مصري للاستثمار بإجمالي مبلغ 16 مليار دولار لضخ الاستثمارات السعودية في عدد من محافظات مصر.
ولا تكمن أهمية مشروع «نيوم» في طابعه الاقتصادي، والذي يتجاوز في حجمه الخمسمئة مليار دولار، وإنما في ما يخفيه من جوانب سياسية تتعلق خصوصاً بالتطبيع المباشر مع إسرائيل، ضمن خطة السعودية للتوسع الاستثماري في المنطقة المطلّة على البحر الأحمر.
وما يؤكد ذلك، هو التفاصيل القانونية للمشروع الذي سيجعل السعودية تعمل في سيناء بقوانين خاصة، تسمح بتسهيلات في التعاون مع الجانب الإسرائيلي، علماً بأن مصر باشرت تنسيقاً مباشراً بين الرياض وتل أبيب مع دخول اتفاقية ترسيم الحدود البحرية حيّز التنفيذ في آب (أغسطس) الماضي وتأكيد الرياض التزامها نفس التعهدات التي وقعتها مصر في اتفاقية كامب ديفيد.
وفي الوقت الذي كان فيه ابن سلمان يوقّع اتفاقية الاستحواذ على أرض جديدة من سيناء، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يعلن من واشنطن موافقة الرياض على منح شركة طيران الهند «إير إنديا» الإذن للطيران فوق أراضيها على خطين، من مطار بن غوريون، في تل أبيب، إليه، وهي خطوة تباينت المواقف السعودية حولها، بين النفي غير الرسمي والامتناع عن التعليق.
ومع ذلك، فإنّ ثمة درجة عالية من اليقين بأن اختيار نتنياهو كشف النقاب عن الصفقة، من داخل الولايات المتحدة التي يصلها محمد بن سلمان بعد أيام، يُشير بوضوح إلى توصّل الطرفين إلى الاتفاق.
وبطبيعة الحال، فإنّ ما سبق، سواء لجهة تقديم صورة الحاكم غير المتزمّت في علاقته بالثقافة والأديان، والأهم فتح بوابة التطبيع مع إسرائيل، قد جعلا الطريق ممهّداً أمام ابن سلمان لتقديم أوراق اعتماده الملكية في بريطانيا والولايات المتحدة.
غطاء بريطاني
على هذا الأساس، كان متوقعاً أن تتجاوز الحكومة البريطانية الانتقادات الموجهة إليها على خلفية دعمها العسكري للسعودية، وتفرش السجاد الأحمر لمحمد بن سلمان، لقاء وعود استثمارية بعشرات مليارات الدولارات، بما في ذلك صفقات تسلّح جديدة.
والمثير للانتباه أن الجهود التي بذلتها الحكومة البريطانية لتلميع صورة محمد بن سلمان، وحملة العلاقات العامة التي أطلقها الأخير قبيل وصوله إلى لندن، لم تنجح في إسكات الأصوات الرافضة لزيارته، وهو ما تبدّى في مظاهر الاحتجاج، بما في ذلك التظاهرات، التي أفسدت على الملك غير المتوّج زيارته «الملكية» للندن، بعد تعرضه للرشق بالبيض من قبل متظاهرين معارضين للعدوان السعودي على اليمن.
ومع ذلك، فإنّ بإمكان بن سلمان أن يغادر لندن إلى واشنطن، وهو مطمئن إلى أن واحداً من الحلفاء التاريخيين لنظام آل سعود سيكون حليفاً قوياً له، حال تسلّمه العرش رسمياً، ولعلّه اطمأن أكثر حين تولى وزير الخارجية بوريس جونسون، بنفسه، تلميع صورته من خلال مقابلة مطوّلة مع صحيفة «الشرق الأوسط» السعودية، امتدح فيها الأمير الإصلاحي والبرنامج الذي أطلقه، والذي وصفه بأنه «مشجع».
التتويج في البيت الأبيض!
وعلى هذا الأساس، فإنّ التتويج الفعلي لمحمد بن سلمان على عرش السعودية سيكون غالباً في البيت الأبيض، حين يلتقي دونالد ترامب في التاسع عشر من آذار، وهو الموعد الملائم جداً، لتواجد ولي العهد–الملك في الولايات المتحدة، والحصول على الغطاء الأميركي غير المحدود، والذي يتجاوز التفاهمات والصفقات الاستثمارية والعسكرية المرتقبة، باتجاه خطة أميركية شاملة، يجري الترويج لها منذ مدّة، ويتوقع إعلانها في أواسط الشهر الحالي، أي بتزامن أو تقارب زمني مع وصول ابن سلمان، تحت مسمّى «صفقة القرن»، لتوطين اللاجئين الفلسطينيين، في أراضٍ خارج فلسطين التاريخية، وتوسيع النطاق الجغرافي لقطاع غزة، باتجاه سيناء.
ولا يخفى أن ابن سلمان هو من أشد المتحمسين لهذه الخطة التي صاغها صهر ترامب، جاريد كوشنير، وقد روّج لها الأمير–الملك، بشكل غير مباشر، قبل قرار الرئيس الأميركي باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، بأن اقترح على رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس القبول بمقترح «دولة فلسطينية» عاصمتها أبو ديس… بدلاً من القدس!
وإذا ما تحقق ذلك، فسيكون محمد بن سلمان قد سلك الطريق نحو آخر عتبة قبل العرش الملكي على حساب التصفية النهائية للقضية الفلسطينية، ويكون بالتالي قد سلّم بشكل كامل كل أوراقه إلى الأميركيين… بعنوان يكاد يكون مطابقاً لعنوان المسرحية الغنائية التي حضرها في دار الأوبرا المصرية «سلّم نفسك!»… لإسرائيل.
Leave a Reply