«صورة الفتى بالأحمر» كتاب لفواز طرابلسي، قرأته ووجدت فيه فصلاً آخر من فصول المرارة العربية والعبث في لبنان والمثال الساطع على ضياع الأجيال والأوطان. مثاليات تتساقط على الطريق وأحلام تتهاوى وكوكبٌ يدور بنا في كل اتجاه، إلَّا الجهة الصحيحة. وفي فوضى هذه التجربة وغناها، يمثل طرابلسي، عبر كتاب سيرته الذاتية، جيلاً عربياً عموماً ولبنانياً خصوصاً بحث عن وطنه وأمته في جميع المرافىء وجال في متاهات الصحارى وجاب الأرياف وعواصم بلاد العالم، باحثاً ودارساً من أجل تكوين وطن.
وطن كان بوسعه أن يتقدم إلى الأمام ويعزّز وحدته بالإصلاح بدل أن ينتكس نحو التفكك والاقتتال والتعنت و.. العمى، وللأسف فقد انتصر التعنت والعمى انتصاراً مبيناً.
فواز طرابلسي أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت، مؤرخ ومفكر مشهود له. وقد جاء إلى التاريخ من عند جدِّه لأمه عيسى اسكندر معلوف، أول مؤرخ لبناني رسمي، وجاء إلى السياسة من أقصى اليسار، من «منظمة العمل الشيوعي» التي كان يتزعمها محسن ابراهيم، وكان طرابلسي، كما يذكر في كتابه، من المؤسسين الأوائل للمنظمة، يتقدم الحركات الطلابية غير الطائفية، يناصر الفلسطينيين، «أيتام العرب»، ويدافع عن فقراء العالم وبسطائه ويدعم برامج الإصلاح السياسي الديمقراطي للحركة الوطنية ومؤسسها كمال جنبلاط.
في مسيرته الطويلة، يشبه فواز طرابلسي الكثيرين من أهل النخب وجيل أصيل مُنع من إقامة وطن له هوية واحدة. وطن السيادة والعدالة.. لا برجوازية موروثة ولا برجوازي يورّث.
بسبب المناقشات والمنازعات اللامتناهية إلى حد العبث بين الأعضاء تراجعت «منظمة العمل الشيوعي» وانفراط عقدها رغم أنها كانت تضم صفَّاً واسعاً من المثقفين والكفاءات والكوادر، كان يصعب لواحدهم أن «يحط الطاعة» بسهولة للآخرين، خاصة عندما يكون المقياس الفكري هو الغالب بذلك مضى زمن العمل الشيوعي والوطني ومضى معه الوطن، لبنان، الذي حلمنا به، وقد لا نستعيده أبداً.
بالإضافة إلى ذلك أدت حروب اللبنانيين وعداواتهم غير المنتهية والحروب الإسرائيلية والفلسطينية والتدخّل السوري، إلى تراجع العمل الوطني أمام السفاهات والشعارات الفارغة. بعض الشيوعيين اغتنوا وصاروا برجوازيين وإقطاعيين. البعض مات أو هاجر وأكثرهم انحرفوا إلى أقصى اليمين المتزمت وصرت تراهم «رايحين جايين» لزيارة الأماكن الدينية في العراق وإيران.
«صورة الفتى بالأحمر» أعادت إلى ذاكرتي، صور الحركات الوطنية والتنظيمات الاشتراكية التقدمية والشيوعية والخطابات والمهرجانات التي تقام في بلدات وقرى جنوب لبنان في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. «كلام كبير أوي» غاب مثل فقاعات الهواء.
كان الخطأ الأكبر لأتباع لينين محاولة تطبيق نظريات الألماني كارل ماركس بين الفلاحين وفي حقول التبغ. انفخت الدف وتفرَّق العشاق وانفرطت مسبحة «منظمة العمل الشيوعي» وجاءت حروب وراحت حركات يسارية وعادت الرجعية والرأسمالية ودفع الثمن المواطن البسيط، ولبنان الذي رفضه شعبه العظيم ولم يترفق به زعماؤه ها هو يتساقط بين أقدامهم وجزمهم.
أخيراً للقارىء الذي لا زال معطوباً بمتعة قراءة الكتب، «صورة الفتى بالأحمر» عمل جميل ورؤية ذكية بارعة للأحداث، من خلال سيرة ذاتية للكاتب بأسلوب شيِّق يستحق عناء القراءة. الكتاب متوفر في مكتبة هنري فورد العامة في ديربورن.
Leave a Reply