إذا عددنا فضائل الأم، فستكون قمة أعلاها ومعدن أغلاها أنها حملتنا برحمها فاختصت لوحدها دون غيرها بشرف الأمومة.
كم يبعث على الارتياح والتقدير أن يحتفل العالم العربي هذه الأيام بعيدها الذي يشكل مناسبة مشرفة لمنزلتها بكل الثناء والاحتفاء والعرفان الجميل، فالأم هي النور الكاشف للغمامات كلما تلبدت بها السماء في العيون، كما هي التي تعرفنا بالمعاني الإنسانية منذ بدء تفتحنا على ما يحيطنا في الحياة، إذ ليست هناك رقة تضاهي رقتها حتى صفحات الورد، خصوصا في مرحلة نمو أجسادنا الطرية التي تلفها النعومة، مثلما هي الوسيلة العظيمة التي تدرج منها هبات الحياة، مواصلة تضحياتها براحتها لتجعل من قلبها عود المسك الذي كلما احترق فاح شذاه.
وعلى الرغم من المشتركات الأساسية الجامعة للأمومة، فإننا نلحظ الفرق ما بين أوضاع الأم بالأمس عنها في اليوم. ففي الماضي كانت الأم تعاني قسوة الحياة ومرارتها سواء كان السبب في ذلك ضيق العيش أو حدة طباع الأزواج، كذلك على اختلاف الأمكنة أو البيئة التي تحياها الأم، ففي الأرياف مثلاً كان الحقل هو المكان الذي يستهلك أغلب وقتها.. تسهم في الحرث وتعمل على البذار ومن ثم في جني المحصول إلى جانب الرجل، لإعانته على اجتياز مصاعب الحياة، فكم من امرأة داهمها الطلق فأنجبت أثناء الحصاد وجمع المحصول؟ فتعاجل إلى لف وليدها بقطعة من ثيابها، عائدة به إلى البيت وهي في حالة يرثى لها من التعب والإجهاد بعد أن استحوذت على قواها آلام المخاض الداهمة…
رغم كل هذه المصاعب تظل ممسكة ببشاشتها دون شكوى أو إيحاء بالتذمر، سيما وأنها نشأت على عادات مكتسبة سبقتها إليها أجيال من الأمهات والجدات فورثتها منهن دون التفات سوى إلى كونها باعثة على الرضا.
كانت الحميمية المنسابة هي القاسم المشترك الذي يجمع بين أفراد الأسرة، كما كان الدفء الأسري يلف أجواء المنزل رغم أنه لم يعرف شيئا من مظاهر الترف يوما، ذلك لأن أعمدته قامت على قيم الصدق والمودة والوفاء الخام، ويتضح ذلك أكثر حين نرى الأبناء وقد كبروا في مرحلة نضجهم ويفاعتهم وهم قد انغرست في نفوسهم تلك القيم والمبادىء فيترجمون وفاءهم إلى إعلانهم بفخر الانتماء لتلك الأم التي حملت وولدت وربت وسهرت الليالي من أجل تأمين راحتهم، فيجعلون منها المثال الأروع في حياتهم يحيطونها بكل مظاهر التبجيل والتقديس والاحترام، وقد كرمهن الرسول (ص) إذ قال: «الجنة تحت أقدام الأمهات».
أما أغلب أمهات اليوم فهن يتمتعن بحياة مرفهة، تتيسر في تفاصيلها كل مستلزمات الحياة العصرية، إلا أنها رغم كل هذا اليسر تعاني من تعاظم المسؤوليات الملقاة على عاتقها من متابعة الأبناء في دروسهم وتوفير حاجيات البيت والقيام بما يتطلبه من أعمال النظافة وإنجاز الطبخ وغسيل الملابس… والقائمة تطول، لتشمل تأدية الواجبات الاجتماعية، مما يسبب لها إرهاقاً جسدياً وضغطاً نفسياً، لا تخمده سوى نزعة الأمومة في داخلها التي تجعلها تتجاوز كل الصعاب من أجل إسعاد الأسرة.
كم وددت لو أرى وجه أمي في هذا العيد وأقبل يديها الطاهرتين وألقي برأسي المشتعل من الهموم لكي يبرد بين أحضانها وأروي الظمأ الذي يعصف بي من شدة شوقي لمرآها الذي يشع بنوره في جميع الأرجاء، مع أني تعلمت منها أن لا تفارق البسمة شفتي، كما كانت هي وفي أحلك الظروف وأشد الأزمات.
حقاً، إن القلم ليعجز عن وصف الأثر الذي تتركه الأمومة في الضمير، إنها تسكن في قمة جبل لا يمكن للوفاء أن يتسلقه للبر بها..
إنني أعلم علم اليقين بأنها لن تعود لذلك ليس بمقدوري التوقف عن الاشتياق إليها، رحمها الله بظلاله يوم لا ظل إلا ظله، وجعل مأواها جنان الخلد، وكل عام وجميع الأمهات بخير، والرحمة للراحلات منهن.
Leave a Reply