لو قُدّر وأن اجتمع الخبث والإبداع والعبث في شخص ميسور، فجمع في مكان واحد فريق عمل يضم متخصصين في السينما والعلوم السياسية وعلم النفس والاجتماع والكوميديا بألوانها لما تمكن من أن يلخص الواقع السياسي العربي المعتل كما التقطته صورة من أمستردام في هولندا.
لقطة ينبغي أن تدخل التاريخ العربي الحديث في لحظته الراهنة. لقطة ينبغي أن تكون موناليزا الكاريكاتير والبرامج الانتخابية والعقائد والمجتمع المدني. لا مبالغة في ذلك، لا بل المشكلة ليست في المبالغة، المشكلة تكمن في عجز اللغة والعقل والبلاغة والتحليل عن اجتراح وصف لهذه اللقطة في هذا التوقيت.
لقطة أكثر سريالية من رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وأكثر واقعية من قصيدة لأحمد فؤاد نجم. كأنها ثقب كوني أسود جمع المشهد العربي الراهن في نقطة مكثفة لم تفقد من ملامحه شيئاً.
– المكان: سفارة مصر في أمستردام
– الزمان: الجمعة 16 آذار (مارس)
– المناسبة: مشاركة المغتربين المصريين في التصويت في انتخابات الرئاسة
– اللقطة: صندوق اقتراع
هو ليس صندوق اقتراع من الصناديق التي نعرفها. هو سطل نفايات حوّله موظفو السفارة المبدعون إلى صندوق اقتراع. جعلوا في غطائه فتحة مستطيلة ووضعوا على غلاقته قفلاً حرصاً على سرية الانتخاب ووضعوه على مدخل مكتب السفارة لمن يشاء أن يمارس حقه الديمقراطي المضمون دستورياً.
تلخص هذه اللقطة الكثير من المفاهيم والحقائق العربية الراهنة ومنها:
أن التصويت (عربياً) عملية شكلية لا تقدم ولا تؤخر وأن ورقة الاقتراع نوع من القمامة الواجب التخلص منها والمواطن الصالح هو من يضع القمامة في سلة المهملات.
وأن العربي الذي تكبد المشقات ودفع الرشى وربما خاطر بحياته ليصل إلى الغرب ويتمتع بشيء من الحرية والكرامة الإنسانية واليسر، لا يزال أسير ما ترك، وعليه أن يطيع الحكومة حين تطلبه لـ«الواجب» خوفاً على من بقي من العائلة والأحبة في ربوع الوطن.
وأن الموظف دبلوماسياً كان أو خفيراً، يحتقر المواطن ويحتقر أكثر، شكليات الديمقراطية وليس الديمقراطية فقط فلا يجد فارقاً بين برميل الزبالة وبين صندوق الاقتراع.
وأن المواطن مقيماً كان أو مغترباً يدلي بصوته وكأنه يقوم باي شيء آخر لا خصوصية ولا تبعات تتجاوز الفعل ذاته، فعل التصويت، الذي يصبح في هذه الحال فارغاً من أي مضمون.
وأن النتيجة واحدة سواء كان التصويت خلف ستارة أو في صندوق يحدد مواصفاته قانون الانتخاب أو كان ورقة من واقف في طابور ترمى في برميل نفايات. الرابح معروف. الرابح معروف لأن كل ما تجرأ وحاول أن يفكر بالترشح اكتشف أن عليه تهماً جنائية ووجد نفسه سجيناً في اليوم التالي.
يستحق الموظف الذي جاد بهذه الفكرة أن يكون رئيس عمداء كليات العلوم السياسية والقانون وعلم النفس في العالم العربي كله. يستحق التهنئة والترقية لأنه قال في لقطة ما عجز عنه فلاسفة ومفكرون وباحثون ممن يشتغلون بالسياسة وعلم الاجتماع من عرب وعجم.
Leave a Reply