أيوب سليمان، رجل طيِّب، كبير في خلقه وذوقه وإحساسه وإنسانيته وثقافته ونظرته إلى الأمور. صافي النية وله عند رب العالمين منزلة الأبرار. في إحدى الليالي تفتحت
أبواب السماء وحدثته نفسه بأن الله سبحانه وتعالى، لا بد أن يلبي أدعيته إذا ما دعاه، فتجرَّأ وطلب منه تعالى أن يلقي في قلبه من أنواره ما يتيح له أن ينفذ إلى أفكار الآخرين ويمكنه من معرفة ما يجول في نفوسهم حين يتحادثون ويتعاملون، فما كان من الله القدير إلَّا أن استجاب له وأناله مطلبه الغريب لحكمة لا يعلمها إلّا
هو.
في اليوم التالي أحسَّ أيوب بما أتاه الله من قدرة على اختراق كل ستار بينه وبين الناس، وإدراك ما يدور في رؤوسهم من أفكار وخواطر. حين التقى بمخلوقٍ «متقنفش» متكبِّر، منظره يثير الضحك والقرف معاً، بادره الرجل بالعتاب قائلاً: ولو يا رجل نحن في غاية الشوق إليك وتحرمنا من رؤيتك والاستمتاع بمجلسك، ويحزُّ في نفسي أن حالتي مع صديق عزيز وجار قريب مثلك، ليست على ما يرام!
كان أيوب يقرأ ما يجول في رأس محدِّثه: لو كانت معي الأموال التي يملكها هذا الغبي، لو كان لي وضعه الاجتماعي، لما حدَّثته ولا عن حاله سألته، الله يلعن هالأيام!
في اليوم التالي، حضر السيِّد سليمان احتفالاً سياسياً جامعاً وأصغى إلى خطاب مرشح لمنصب من المناصب الهامة، وجده زاعقاَ ناعقاً، يصيح بمشفريه ويشير بيديه ويحرِّك حاجبيه ويتمايل من شدَّة الوطنية يميناً شمالاً ويتحدَّث عن ضرورة التضحية والعمل لرفع الظلم عن أهله وأحبابه في ديربورن، ويعرض برنامجه الانتخابي ورغبته للتواصل مع كل الناس، وإنه سعيد بهذا اليوم الذي جمعه بأهل الاستقامة والشهامة والداعمين له للوصول إلى منصب يمثِّلهم ويرفع شأنهم.
قرأ أيوب سليمان ما يجول وراء لسان المرشح ووراء خطابه وأدرك الحقيقة التي أخفاها برصف الأكاذيب التي جال في ميدانها وصال. وهذا ما كان وراء الكلام: ما تكون المصلحة العامة هذه إذا ما ذهبت الأموال التي أنفقتها حتى الآن هدراً ولم أستردها عشرة أضعاف. وأي استقامة وشهامة التي سلكها معظم هؤلاء «الفناصين» النصَّابين، الذين يموتون غراماً في نشر صورهم بالجرايد وتكتب عنهم مواقع التواصل الفيسبوكيَّة، حتى ولو لم تجد ما تصفه بهم أكثر من أنهم «بعول» لزوجاتهم وأنهم يتعشون في المطعم الفلاني ويؤركلون عند علَّان العلَّاني، وأنا لا أقلُّ عنهم مهارة في «التفنيص» والتملق والتهرب من الضرائب والاحتيال.
عاد أيوب سليمان إلى منزله وهو «دوخان» مما عرفه وسمعه من الناس، غير أنه كابر وحدَّث نفسه قائلاً: غداً، بدون شك سأعرف من حقائق الناس ما يناقض صور النفاق التي شاهدتها حتى الآن.
كان مدعوَّاً لحضور مجلس «حكماء» في أحد المراكز الدينيَّة الثقافية بديربورن، سمع ما أذهله وقرأ ما أدهشه. أحدهم قال إنه نذر نفسه لخدمة أهله وناسه. قرأ أيوب في خاطره إنه يرجو الله أن يبعث له زوجة غنيَّة تخلصه من هذه الورطة! وسمع سيِّدة تتحدث عن «رسالتها» بين الناس قائلة في حماسة واندفاع واقتناع إنها خلقت لخدمة القضايا العامَّة وإن تلك هي رسالتها التي هيأتها لها الأقدار، لذلك أطلقت على نفسها لقب «سيِّدة المجتمع الأولى في ديربورن» والمدن الأخرى، وقرأ كلامها الذي خلاصته أنها سوف تتخلَّى عن هذه الأكاذيب التي تمارسها إذا لم تنشر مواقع التواصل الفيسبوكية، صورها بملابسها وأكسسواراتها الغريبة وحجابها المودرن جدّاَ وتبرزها دون سواها من وجهاء وحكماء الجالية.
تابع السيِّد سليمان ما يجول في أذهان حكماء الجالية المجتمعين، لم يجد حكمة. وجد البلاهة والسفاهة والسخافة وراء ابتسامات الرضى والقبول وكلمات الإعجاب المتبادلة والأقوال الصريحة التي أدلى بها حكيمهم الأكبر الذي علمهم السحر، وفهم أيوب أن غاية اجتماع حكماء الجالية هي: أن رأس الحكمة مخافة الراعي الذي يقود هذا القطيع للمزيد من الجهل والغباء وجمع التبرعات على حبِّه بكرة وأصيلا، وكتابة المقالات الطويلة وإلقاء القصائد في مدحه و«تبخيره» من الحسد.
استمرَّ أيوب يرى ويسمع، وقال ذات مرَّة، إنصافاً للناس، إنه لقي فيهم عدداً ضئيلاً من الذين تطلق ألسنتهم بما تجيش به قلوبهم، لا زيادة ولا نقصان. مضت الأيام وشعر فيه بألوان العذاب لم تخطر ببال بشر، عذاب الإنسان الواحد الفرد الذي يواجهه الناس بما لديهم ولا يستطيع هو أن يواجههم بما لديه وهو على حق وهم على باطل.
وفي ليلة الجمعة، ركع العبد سليمان رافعاً يديه مخاطباً ربَّه قائلاً: الَّلهم إمنع عنِّي هذا العذاب الذي أغرقتني فيه هبة من لدنك في الإيام الماضية، وأعدني إلى حظيرة الناس كما كنت!!
وفي اليوم التالي اجتمع أيوب سليمان بالناس وسمع أقوالهم ولم يقرأ ما وراءها أيَّة خاطرة تعكِّر عليه نعمة الرضى والقبول، فشكر الله لأنه أعاده كما كان وحمل تليفونه وحملق فيه وصدَّق كل خبر سمعه في التلفزيون وكل إعلان رآه وبات كل شيء على ما يرام.
Leave a Reply