بين الانسحاب من سوريا والتصعيد ضد روسيا
خاص «صدى الوطن»
فيما كان الجيش السوري يستكمل تحرير الغوطة الشرقية من المسلحين، تفاجأ العالم بوقوع هجوم كيميائي بمدينة دوما في مشهد متكرر خلال سنوات الأزمة السورية، أريد منه هذه المرة دفع الأمور إلى حافة الانفجار الذي كادت إسرائيل أن تشعل فتيله بعدوانها على مطار عسكري سوري تزامناً مع تصعيد كلامي من الرئيس الأميركي دونالد ترامب سرعان ما انخفضت وتيرته في الأيام التالية.
التطورات الدراماتيكية بدأت بعد حوالي أسبوع من كشف ترامب عن نيته الانسحاب من سوريا مسبباً صدمة للإسرائيليين والسعوديين وأطراف أخرى تحركت سريعاً لمنع هذه الخطوة أو على الأقل تأجيلها. فجاء الفصل الكيميائي الجديد الذي لقي رداً قاسياً من ترامب عبر تويتر الأحد الماضي، بوصفه للرئيس السوري بشار الأسد بالحيوان، ومحملاً موسكو وطهران مسؤولية أفعاله ومتعهداً بتدفيعهما ثمناً باهظاً.
إسرائيل استغلت الموقف. وبعد ساعات من تغريدات ترامب التصعيدية، دخلت على خط التوتير ليل الأحد الماضي، بشن هجوم صاروخي على مطار «تي٤» العسكري في محافظة حمص وسط البلاد، واضعة العالم على حافة حرب كبرى بتحديها للتحذيرات الروسية بالرد على مصدر أي عدوان خارجي ضد سوريا.
احتوت موسكو الموقف، ولم تبادر إلى الرد، إثر مسارعة وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إلى نفي مشاركتها في الهجوم، ولكن ذلك لم يخفف من حدة الخطاب الترامبي الذي واصل في الأيام التالية تلويحه بالهجوم على سوريا رداً على الهجوم الكيميائي المزعوم.
وببضع تغريدات، وضع ترامب العالم المترقب على تخوم مواجهة مع روسيا يصعب التوقع بنتائجها الكارثية، حين قرر الدفع بالصراع إلى نقطة الذروة بدعوته روسيا إلى الاستعداد لصد «الصواريخ الذكية» عن سوريا، في وقت تسارعت فيه الاتصالات الدبلوماسية، على أكثر من خط، لاحتواء الموقف الخطير، في ظل هامش قليل من الخيارات والوقت المتبقي أمام مغامرة عسكرية لتغيير موازين القوى على الساحة السورية التي تتجه نحو حسم الصراع المستمر منذ ثماني سنوات.
التصعيد والتراجع
أمام تصعيد ترامب، الذي يحرص على الظهور بموقع القوة بمواجهة روسيا في ظل استمرار التضييق الداخلي عليه في أكثر من ملف، تبقى كل الخيارات مطروحة في ظل انقسامات الإدارة حول الوجود العسكري الأميركي في سوريا والتداعيات الاستراتيجية المحتملة للانسحاب.
الاحتمالات تتراوح بين مجرّد ضربة محدودة بصواريخ «توماهوك» تستهدف «حفظ ماء الوجه»، بعدما اختار ترامب الصعود على شجرة التصعيد، التي يصعب النزول منها، وبين صدام روسي–أميركي مباشر، لم يمكن اعتباره مجرّد سيناريو غير واقعي.
كذلك فإنّ احتمال التوصّل إلى تفاهمات دبلوماسية يبقى قائماً، انطلاقاً من تجارب سابقة نجحت خلالها الوساطات الدبلوماسية في وقف مغامرة الرئيس السابق باراك أوباما في سوريا عام 2013، تحت الذريعة الكيميائية نفسها.
ثمة عوامل عدة، يمكن البناء عليها لإنجاح الجهود الدبلوماسية، من بينها التخبط داخل الإدارة الأميركية نفسها، بين فريق «الصقور» الذين يمثلون المؤسسات الأميركية العميقة، وفريق البراغماتيين الذي يميل إليه ترامب ويمثله وزير الدفاع جيمس ماتيس، الذي يبدو أكثر رغبة في مقاربة التصعيد انطلاقاً من حسابات الربح والخسارة، خصوصاً أن تهديدات ترامب بضرب سوريا، باتت تنذر، وخلافاً لما كانت الحال في الماضي، بمواجهة مفتوحة مع روسيا.
هذا التخبط داخل الإدارة انعكس في إحدى تغريدات ترامب، التي تراجع فيها توعده بالرد في غضون ٤٨ ساعة، مؤكداً أنه «لم يحدّد موعداً للضربة» وأنها «قد تكون قريبة أو غير قريبة على الإطلاق»!
وكان ترامب قد قال في تغريدة الأربعاء إن «على روسيا الاستعداد لأن الصواريخ قادمة (إلى سوريا) وستكون جديدة وذكية».
ومما لا شك فيه بأن الهواجس المرتبطة بالصدام المباشر بين روسيا والولايات المتحدة في سوريا، شكلت، ولا تزال، عوامل كبح للتدخل الأميركي المباشر في سوريا منذ فشل محاولات إسقاط النظام السوري من الداخل.
تروّي واشنطن تبدّى خصوصاً في ما خرجت به لقاءات ترامب مع المسؤولين العسكريين الأميركيين، ولا سيما اجتماعه مع ماتيس، الذي أعلن إثره أن «ثمة خيارات عدّة» مطروحة، مشترطاً في الوقت ذاته «التمهّل» بغرض «التحقق من المعلومات» المرتبطة بالهجوم الكيميائي المزعوم في الغوطة الشرقية، وهو ما يشير إلى أن واشنطن لن تنقاد تماماً برواية الهجوم الكيميائي، وقد ألمح ترامب في حديثه إلى ضرورة التأكد من أدلة الهجوم.
الأمر نفسه انسحب بعد ساعات أوروبياً، مع عبارات مشابهة رددها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بشأن «التحقق من المعلومات» مع تأكيد إضافي بأن بلاده «لن تقبل بالتصعيد» في الشرق الأوسط! فيما أكدت الناطقة باسم الخارجية الروسية أن أطباء وخبراء روس زاروا موقع الهجوم الكيميائي المزعوم ولم يجدوا أي أدلة على ذلك.
كما كان لافتاً إعلان مكتب رئيس الوزراء الإيطالي في بيان له أن بلاده «لن تشارك في أية عمل عسكري في سوريا». وكذلك صرحت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل بموقف مماثل.
وقال البيت الأبيض إن الرئيس ترامب أنهى اجتماعاً مع فريق الأمن القومي الأميركي الخميس الماضي، دون اتخاذ قرار نهائي بشأن سوريا، مضيفاً أن الإدارة تواصل تقييم المعلومات وهي تتحدث مع الشركاء والحلفاء.
وبالرغم من تلك المعطيات، تبدو الضربة الأميركية المحدودة خياراً مرجحاً –ربما عبر قناة التنسيق مع موسكو– خصوصاً أنها باتت الباب الوحيد لحفظ ماء وجه واشنطن، وترامب.
ثلاثة سيناريوهات
ماتيس أشار إلى أن بلاده «تتطلع إلى تجنّب خروج الأزمة السورية عن نطاق السيطرة»، لافتاً إلى أن وزارة الدفاع ستتواصل مع الكونغرس «قبل أي هجوم على سوريا»، وأضاف قائلاً: «لست مستعداً للتكهّن بردّ الفعل الروسي على ضربة أميركية محتملة في سوريا».
وفي كل الأحوال، يمكن الحديث عن ثلاثة سيناريوهات مرتبطة بالعمل العسكري الأميركي:
السيناريو الأوّل (وهو الأكثر ترجيحاً) إطلاق صواريخ «توماهوك» في وقت واحد، أو على دفعات، على أهداف «أقل من كبيرة»، بمعنى أنها تتجاوز في بنك أهدافها الهجوم الأميركي في العام الفائت على مطار الشعيرات، ثم يعلن ترامب عن إنجازه المتمثل في «معاقبة بشار الأسد»، ويسير كل شيء بعد ذلك على النحو المعتاد.
أما السينايو الثاني (وهو وارد، وأشد خطورة)، هو أن تستهدف الضربة الأميركية نقاطاً أكثر حساسية وأهمية، بما في ذلك المستشارين العسكريين الروس أو حتى وحدات من القوات المسلحة الروسية، وهو ما يتطلب رداً من روسيا من أجل تجنب الخسارة المعنوية.
وأمّا السيناريو الثالث (وهو الأقل ترجيحاً، والأكثر خطورة)، هو ضرب المرافق الرئيسية المشتركة بين روسيا وسوريا، بما في قاعدتي حميميم وطرطوس، ما يعني الحرب الفورية، التي لن يكون هناك مفر منها.
ويبدو أن عوامل ترجّح كفّة السيناريو الأوّل، إن اختارت الولايات المتحدة التصعيد، ومن بينهما موازين القوى العسكرية، التي تجعل ثمة إمكانية للعب على عامل الوقت لاحتواء الهجمات الأميركية المرتقبة، خصوصاً في حال استمر «ضبط النفس» الروسي، المتمثل في عدم الانجرار وراء الاستفزازات الأميركية والبريطانية والإسرائيلية.
ويتفق الخبراء على أن القدرات الأميركية في شرق المتوسط محدودة للغاية، على المدى القصير، فهناك بضع عشرات صواريخ «توماهوك»، التي يمكن أن تصدر الأوامر بإطلاقها من المدمرات في البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي.
ومن المؤكد أن تلك الصواريخ لا يمكن أن تفرض «ثمنا باهظاً»، كالذي توعّد به ترامب، ولكنها قادرة على «حفظ ماء وجه» الرئيس الأميركي.
ولا شك في أن روسيا مستعدة «للرد الأكثر تطرّفاً» بحسب مجريات الضربة الأميركية، وهو ما أكده رئيس الأركان في الجيش الروسي فاليري غيراسيموف من أنه «في حالة وجود تهديد للجيش الروسي في سوريا، فسيتم الرد ليس فقط على الصواريخ وإنما أيضاً على منصاتها، بما في ذلك القطع البحرية والطائرات الأميركية. غير أن مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة عاد وأكد أن الأولوية حالياً هي لمنع تدهور الأمور نحو حرب.
وبشكل عام، فإنّ ما تروّج له وسائل الإعلام الأميركية يشي بأنّ الضربة الصاروخية ستتجاوز في حجمها وبنك أهدافها، الضربة الصاروخية السابقة التي استهدفت مطار الشعيرات على خلفية المزاعم باستخدام السلاح الكيميائي في خان شيخون العام الماضي.
ويدور الحديث حالياً عن مجموعة أهداف محددّة تحت عنوان «ضرب المنشآت العسكرية التي يستخدمها النظام السوري في الهجمات الكيميائية» المزعومة، وهي تتمثل خصوصاً بالقواعد العسكرية الجوية في الضمير، ومرج رحيل والمزة.
في الختام يمكن القول إنه نظراً لتعقيدات الأزمة السورية وأهميتها الاستراتيجية لمستقبل الشرق الأوسط والعالم، يستحيل استبعاد الصدام المباشر بين روسيا والولايات المتحدة، فالوضع الآن أسوأ من أي وقت مضى حتى إذا ما قيس بتوتّرات الحرب الباردة، لاسيما بعد حملة طرد الدبلوماسيين المتبادلة بين روسيا والغرب.
هناك أطراف لن ترضى بأي شكل من الأشكال بانسحاب أميركي سريع من سوريا، ولذلك ستستمر محاولات التوتير والاستفزاز خلال الأشهر القادمة التي تسبق انتخابات الكونغرس هذا الخريف، التي يريدها ترامب مناسبة للإعلان عن خطة الانسحاب من سوريا بعد القضاء التام على تنظيم «داعش»، فيما يحرص الصقور والحلفاء الإقليميون والدوليون على منع الانسحاب تحت عنوان الحفاظ على «المصالح الاستراتيجية» للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
الأيام والأسابيع القليلة المقبلة قد تبدو من أخطر الأيام على الأمن العالمي، ولكن التعويل يبقى على الاتصالات الدبلوماسية لاحتواء الموقف، وإنزال ترامب عن شجرة التصعيد والتهور.
Leave a Reply