«العملية انتهت… وليست هناك في الوقت الحالي خطط لشن عمليات أخرى».
بهذه العبارة، التي فصلتها خمسون دقيقة عن «إعلان الحرب» على سوريا، من جانب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حسم رئيس أركان الجيوش الأميركية الجنرال جو دانفورد أمر «العدوان الثلاثي» الذي انتهى ظاهرياً بصيغة «لا غالب ولا مغلوب».
وإذا ما أُخذت في الحسبان أجواء الحرب، بدعايتها السياسية غير المسبوقة منذ الحرب الباردة، والتي سبقت الساعة الصفر لإطلاق الصواريخ المئة والثلاثة، التي استهدفت ثلاثة مواقع في سوريا، وأجواء الحشد الهائل للآلة العسكرية لثلاث دول غربية كبرى في مجلس الأمن الدولي، لأمكن وصف ما جرى بأمر من اثنين:
إما «هزيمة استراتيجية» للولايات المتحدة، وإما «أكبر عملية نصب» مارسها «التاجر» دونالد ترامب، لملء خزينة بلاده بمئات ملايين الدولارات من «حلفائه» الخليجيين، الذين لهثوا وراء عدوان شامل على سوريا، تبيّن أنه مجرّد «أحلام أغبياء».
على شفير حرب عالمية ثالثة
في الواقع، لا تحتاج الولايات المتحدة إلى «هزيمة استراتيجية» جديدة. هي هزمت بالفعل في اللحظة الأولى التي حطت فيها طائرات «السوخوي» على الأرض السورية في أواخر العام 2015.
الرئيس دونالد ترامب يدرك جيّداً هذا الأمر، ومن هنا أتى قراره المؤجل التنفيذ بسحب جنوده من سوريا، تجنّباً لمزيد من الخسائر –المالية وربما البشرية في حال الانخراط المباشر– بحيث «يترك للاعبين الآخرين يدبّرون أمورهم»، حسبما قال في أحد خطاباته.
اختار ترامب في نهاية المطاف، وحفظاً لماء الوجه، عملية محدودة، يبدو أنها كانت محسوبة بدقة، لتجنّب استفزاز حلفاء دمشق، والمخاطرة بحرب نووية أو حرب عالمية ثالثة مع روسيا.
على هذا الأساس، كان بنك الأهداف واضحاً ومتواضعاً، وكانت النتيجة العملية لـ«العدوان الثلاثي» معروفة سلفاً: «هجوم لمرّة واحدة… ولليلة واحدة.. وانتهى».
وقياساً على لغة ترامب الصارمة، في إعلان «العدوان الثلاثي»، فإن المسار الذي اختاره يظهر أنه لم يبذل أي جهد لإلحاق الضرر بالجيش السوري، أو أي من حلفائه، وبالتالي لا يمكن الحديث عن أي تغيير في توازن القوى بعد ليلة ٧ نيسان.
في الواقع، يبدو أن كل ما طمح إليه ترامب هو «الابتزاز السياسي»، الذي يمكن ترجمته بإسالة لعاب محمد بن سلمان وتميم بن حمد، المتعطشين إلى دور يعيد حضورهما على الساحة السورية، وجرّهما إلى دفع مليارات الدولارات الإضافية، لمحاولة فرض «ثمن سياسي» على الروس والإيرانيين قبل الانسحاب الأميركي من سوريا، الذي لا يزال تنفيذه معلّقاً.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، في هذا الإطار: هل تبرّر «أهداف صغيرة» كهذه، دفع البشرية إلى حافة حرب عالمية ثالثة، التي كان يمكن أن تحدث، ولو بمجرّد احتكاك عن طريق الخطأ مع دولة عظمى مثل روسيا؟
تحت الضغط
الإجابة المنطقية على سؤال كهذا، يمكن البحث عنها في الاجتماع الذي عقده ترامب مع وزير الدفاع جيمس ماتيس قبل يومين من العدوان. كان واضحاً حينها أن الرئيس الأميركي قد صعد على شجرة التصعيد، وبات عالقاً بين الرغبة في النزول، وبين التحريض الفرنسي – البريطاني–الإسرائيلي–الخليجي، وحتى الداخلي، لضرب سوريا وتغيير موازين القوى.
انطلاقاً من هذا المأزق، كان لا بد من أن يكون القرار النهائي بيد أصحاب الخبرة، أي كبار المؤسسة العسكرية، وعلى رأسهم ماتيس، الذي حذر الرئيس من أن شن هجوم واسع قد يحمل خطورة استراتيجية، مبدياً قلقه من احتمال اندلاع مواجهة كبيرة، في حال استفزاز روسيا وإيران إلى مواجهة أعمق مع الولايات المتحدة.
هذه المخاوف عبّر عنها بشكل أكثر وضوحاً الخبير في «مركز دراسات الحرب» الجنرال المتقاعد في الجيش الأميركي جيمس دوبيك حين اعتبر أنه «بالنظر إلى الصلة بين روسيا وإيران والأسد، فإن الهجوم قد يساء فهمه، ويبرر ضربة انتقامية»، متسائلاً «ماذا سنفعل بعد ذلك؟».
على هذا الأساس، حُسم أمر الضربة المحدودة، والنزول الآمن عن شجرة التصعيد.
بذلك حقق ترامب أهدافه المحدودة بأقل الخسائر، ولكنه في الوقت ذاته لم يتمكن من تغيير المعادلات الميدانية التي تميل تماماً لصالح الأسد والجيش السوري الذي يواصل تحرير المناطق التي يسيطر عليها المسلحون منذ سبع سنوات.
حسابات داخلية
مما لا شك فيه أن «العدوان الثلاثي» ترك تأثيراً إيجابياً كبيراً على مكانة في الداخل، حيث أبدى الرئيس الأميركي حزماً سيستثمره في مفاوضات نزع ترسانة كوريا الشمالية النووية، كما أظهر استعداداً للجوء إلى القوة عندما تفشل الدبلوماسية.
وبحسب المراقبين، فإنّ الهجوم على سوريا عزز موقف ترامب أمام خصومه في المنظومة الحاكمة في الولايات المتحدة لاسيما بين الديمقراطيين الذين أبدوا تأييداً نادراً للرئيس في سياق حضه على الهجوم، تماماً كما حدث قبل عام، حين شن هجوم «التوماهوك» على مطار الشعيرات، إذ قفزت شعبية ترامب، وهو ما يحتاجه في هذا الوقت مع استمرار تحقيقات روبرت مولر بشأن تواطؤ انتخابي محتمل بين ترامب وموسكو. ولكن اثر الضربة الأخيرة لم يقتصر على الإيجابيات، حيث عبر بعض أنصار الرئيس للهجوم الذي اعتبروه تناقضا مع تعهّدات ترامب الانتخابية بوقف التورط الأميركي في الحروب العبثية في الشرق الأوسط.
برود روسي
على الجانب الروسي اتخذت الأمور منحى جدياً منذ اللحظة الأولى لإثارة «الملف الكيميائي» بدا واضحاً عند أن الأمر يتجاوز مجرّد التشويش على الانتصارات التي تحققت عسكرياً في الميدان السوري، أو حتى الإنجازات السياسية الأكثر أهمية على المستوى الاستراتيجي، والتي عبّرت عنها القمة الثلاثية التي جمعت فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان وحسن روحاني في أنقرة.
إذ أن المقاربة الروسية لما حدث فجر السبت الماضي، كانت أكثر شمولية، وأكثر اتساعاً في زاوية الرؤية، التي تتجاوز سوريا، وإن كانت الأخيرة تمثل اليوم نقطة الارتكاز في المشهد العام. فمنذ سنوات، تنظر روسيا إلى مجمل التحركات الغربية، باعتبارها محاولة لخنقها وجرّها نحو حرب باردة جديدة، تارة بـ«الثورات الملونة وتارة أخرى بـ«الدرع الصاروخي» أو توسّع «أطلسي» في الفضاء السوفياتي السابق، وطوراً بإجراءات «شيطنة»، كان آخرها ملفّا «سكريبال» و«الكيميائي السوري».
ضمن هذا السياق، جاء التصعيد الغربي المتجدّد، من البوابة السورية، حلقة مترابطة من مسلسل المواجهة الشاملة، التي يهدف الغربيون من خلالها إلى عزل روسيا، سياسياً واقتصادياً.
على هذا الأساس، اتسم ردّ الفعل الروسي ببرودة شديدة، مقارنة بالتسخين والاستفزاز الغربي، انطلاقاً من إدراك لكلّ الأفخاخ التي توضع، للدفع باتجاه ما بات يعرف بـ«حرب باردة–2» وهو آخر ما تسعى إليه روسيا ضمن استراتيجيتها للصعود إلى المسرح العالمي بعد عقود الانحدار والتدهور.
ومع ذلك، فإنّ مواجهة التصعيد الغربي، بالنسبة إلى روسيا، لا يمكن أن تكون بالتراجع خطوة واحدة إلى الخلف، أو حتى بالانحناء أمام العاصفة، خصوصاً حين يتعلق الأمر بسوريا – بوابة أوراسيا في شرق المتوسط، والتوأم الوحيد لميناء سيفاستوبول في تأمين الحضور الروسي في المياه الدافئة.
وفي الواقع، فإن التوقعات الروسية باتجاه استمرار الغرب في دفع العلاقات مع روسيا نحو مزيد من التصعيد، واعتبار أن ما جرى في سوريا، فجر السبت، وما سبق تلك الأحداث، وما سيليها، هو الإطار العام الذي ينبغي على روسيا مواجهته خلال المرحلة المقبلة.
وفي مطلق الأحوال، فإنّ خيارات كهذه تبدو كابحة – إن لم تكن مفجّرة – لفرص الحل السياسي في سوريا، وهو ما عبّر عنه الرئيس فلاديمير بوتين في اتصاله الهاتفي مع الرئيس الإيراني حسن روحاني، حين حذر من أن «تكرار افعال مماثلة في انتهاك ميثاق الأمم المتحدة سيحدث من دون شك فوضى في العلاقات الدولية»، واتفاق الرئيسين على أن ما جرى «عملاً غير قانوني يلحق ضرراً بالغاً بإمكانات التوصل إلى تسوية سياسية في سوريا»، بحسب ما جاء في بيان الكرملين.
ولعلّ ذلك الاقتحام الغربي المتجدد للمشهد السوري، عسكرياً (من خلال الضربات الصاروخية)، ودبلوماسياً (من خلال التقدّم بمشروع قرار أممي جديد يدمج بين الكيميائي والانساني والسياسي)، هو مؤشر آخر على أن الأزمة السورية لا تزال مقبلة على تعقيدات كبيرة، من شأنها أن تقوّض كل ما سبق من جهود لتحقيق التسوية السياسية بعيداً عن مسار جنيف، فيما تتجه محادثات التسوية الروسية–التركية–الإيرانية إلى جولة جديدة في آستانا، منتصف أيار (مايو) المقبل.
الروس اختاروا عدم الاشتباك
قالت وزارة الدفاع الاميركية (البنتاغون) إن الأنظمة الدفاعية الجوية الروسية تم تشغيلها اثناء الهجوم على سوريا خلال العدوان الثلاثي الأميركي البريطاني الفربنسي، فجر السبت في 14 نيسان (أبريل) «لكن الروس اختاروا عدم الاشتباك».
وأضافت في بيان لها الخميس الماضي أنه لم تهدد روسيا، المدمرة الأميركية «كوك» اثناء القصف على سوريا، بالرغم من وجود فرقاطتين لروسيا في البحر المتوسط، معتبراً أن التصرّف الروسي كان مهنياً فيما يتعلق بالمدمرة «كوك».
وفي سياقٍ منفصل، قال البيان «يعود لتركيا أن تقرر ما هو الأفضل لمصلحتها الاستراتيجية فيما يتعلّق في قرار شراء أنظمة الدفاع الجوي الروسية S400».
اتهامات .. وتطورات ميدانية
بعد نجاح الجيش السوري بتحرير مدينة دوما وكامل الغوطة الشرقية لدمشق، عادت أصوات القصف الجوي والصاروخي إلى العاصمة السورية، من بوابتها الجنوبية، مع دخول مخيم اليرموك وحيّي القدم والحجر الأسود دائرة العمليات العسكرية بعد تعثّر المفاوضات التي كانت تهدف إلى إخراج مقاتلي «داعش» وعائلاتهم، من دون قتال.
وبينما كان جنوب دمشق يشتعل بالمعارك، بدا المشهد مغايراً في ريف دمشق الشمالي الشرقي، مع عودة السيادة الحكومية على بلدة الضمير، والإعلان عن قبول المسلحين في جيب القلمون الشرقي (شرق الطريق الدولي دمشق–حمص)، البدء بإجراءات التسوية مع الجيش السوري.
وجاءت تلك التطورات الميدانية في وقت لا يزال فيه دخول وفد «منظمة حظر انتشار الأسلحة الكيميائية» إلى دوما متعثراً، بسبب مخاوف أمنية، وسط اتصالات من الأمم المتحدة مع جميع الأطراف الفاعلة، وخاصة موسكو ودمشق، لتسهيل هذا الإجراء وضمان سلامة المحققين.
وفي سياق آخر، نقلت وسائل إعلام روسية عن مصادر عسكرية، أن هناك احتمالاً لتنفيذ استفزازات جديدة بأسلحة كيميائية في الجنوب السوري. وأشارت تلك المصادر إلى أن الأميركيين يحاولون فرض «منطقة ذات إدارة مستقلة» في درعا ومحيطها، على غرار ما جرى شرق الفرات. وهو كلام رددته المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماريا زخاروفا، بقولها إن «القوافل التي يزعم أنها تحمل مساعدات إنسانية تصل بانتظام عبر الحدود الأردنية، ولكننا نعرف نوع تلك المعونة الإنسانية».
وفي موازاة اتهامات روسية للجانب الأميركي بالسعي إلى إنشاء منطقة «مستقلة» في الجنوب، كشفت مصادر أميركية «مسؤولة»، في تصريحات لشبكة «سي أن أن»، أن إدارة الرئيس دونالد ترامب تدرس تقديم ما وصفته بـ«مكافأة إجبارية» للسعودية من أجل إرسال قوات عربية إلى سوريا، تحل محل الأميركية الموجودة. وبحسب مصدر تحدّثت إليه «سي أن أن»، فإن واحدة من الأفكار التي يدرسها حالياً «مجلس الأمن القومي»، تتمحور حول تقديم عرضٍ للسعودية بأن تصبح دولة بدرجة «حليف رئيسي خارج الناتو».
Leave a Reply