تفتأ الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية المعروفة اختصاراً باسم الجزائر، والملقبة ثورياً ببلد المليون شهيد (البعض يزاود بنصف مليون شهيد إضافي)، تذكرنا بأنها تلخص الصورة العربية؛ خصوصاً الصورة التقدمية العربية –تميزاً عن الرجعية والبداوة– وكأنها لا تريد لنا أن ننسى البؤس الشامل الذي نحياه منذ ثلاثة أجيال على الأقل، أو منذ ما سمي بمرحلة الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية، والتي قادت بالنهاية عام 1962، إلى استقلالها عن الاستيطان الفرنسي الذي كانت الصحافة الفرنسية تسميه الأقدام السود.
قبل أيام، تحطمت طائرة عسكرية جزائرية على متنها 257 راكباً لم ينج منهم إلا واحد، بعد إقلاعها بلحظات من مطار بوفاريك جنوب غربي العاصمة. من نافل القول أن كل طائرة، ككل آلة، معرضة للعطب، وان كانت حوادث الطيران لاتزال تثير فزعاً أكثر، كون الإنسان في الفضاء، ليس على جماد أو ماء، وليس بيده أو حواسه ما يمنحه الشعور بالقدرة على تغيير النتيجة. إلّا أن ذلك الحادث على مأساويته ونتائجه المروعة لمئات العائلات يقول عن السياسة العربية المعاصرة أكثر مما يقول عن سلامة الطيران.
الطائرة ذات المحركات الأربعة من طراز «أليوشن» الروسي الصنع. من الطبيعي لنظام ثوري مثل النظام الجزائري أن يقتني المعدات الروسية، أقله في النقل العسكري والعتاد الحربي، فالغرب لايزال العدو الحضاري والإنساني والتاريخي، والأهم للأنظمة الثورية العربية تقاليد ورثتها من الحقبة الستالينية، القوات المسلحة خط أحمر، لها الامتيازات والقرارات والموارد، الضابط لا ينبغي أن يكون من عامة الشعب وأن لا يستخدم الطيران المدني حتى في حالات الانتقال العادية، الضابط له طائرته وقاعدته الجوية وتوابعها وله طاقم من عشرة أشخاص متفرغين لحله وترحاله.
ليت التشابه يتوقف هنا، هذا أمر يمكن تلافيه ببضعة قرارات إدارية. لكن الجزائر تلخصنا. أعلن رئيس الجزائر عبد العزيز بوتفليقة الحداد ثلاثة أيام، بوتفليقة رئيس دولة الشهداء تجاوز الثمانين عاماً السنة الماضية. لم يتجاوزها كبقية الخلق الذين يعمرون وإنما كرجل مقعد لا يقوى على المشي أو الكلام إثر جلطة دماغية ألمّت به عام 2013، أي منذ أكثر من أربع سنوات وأعيد انتخابه وهو على تلك الحالة لأن «الضباط الأحرار» أو «الثوار الآباء» أو «جيل الاستقلال» استدعوه من دولة الإمارات العربية المتحدة حيث كان يقيم عام 1999 ليترشح للرئاسة، فجأة انسحب بقية المرشحين ومن أبرزهم احمد حمروش وحسين ايت احمد وطالب الابراهيمي وعبد الله جاب الله، بعدما أعلن الجيش دعمه. الذين ولدوا يوم تنصيب بوتفليقة رئيساً بلغوا الآن سن الرشد وأكثر، ولم يعرفوا رئيساً أو «قائداً» غيره. هو لا يطل على الناس، ولا يرى شعبه، في عيد الاستقلال، وكأس الجزائر لكرة القدم، وتخريج دورات الضباط يظهر مواربةً وكأنه من شخصيات متاحف الشمع جسد على كرسي نقال لا حياة في وجهه ولا تعابير سوى انعكاس الضوء على بشرة وجهه الجامدة، كم هو متوسط أعمار الحكام العرب من لبنان إلى السودان إلى تونس والى اليمن والعراق؟ قبل أن ندخل في دوامة الوراثات ثورية كانت أم ملكية، بعد 55 سنة على الاستقلال الجزائري تبدو الصورة جلية. الضباط يعيشون كشريحة مميزة وممتازة، بيوتهم في باريس وأوروبا، حقوقهم مصونة، نساؤهم وبناتهم يأنفن العيش في الوطن ويفضلن باريس تحديداً وليون وكان وغرينوبل، وأبناؤهم مولودون للقيادة، يتسلمون المناصب المهمة، هم ضباط المستقبل ومدراء المستقبل ووزراء المستقبل، والأهم مستثمرو المستقبل. فيما حلم أبناء البسطاء الذين ضحوا للثورة وفي الثورة ومن أجل الثورة أن يشتروا تأشيرة دخول ولو مزورة ليصلوا إلى أرض الأقدام السود ويعملوا في الوظائف الوضيعة الأفضل لهم من البقاء في البلد المحرر.
بعد 55 عاماً على التحرر، تنتبه بالفطرة إلى أن الداعشي الذي نفذ عملاً ارهابياً مشيناً في فرنسا هو من أصل جزائري أو مغاربي. يندفع عتاة الممانعة والوطنية إلى نبش دفاتر الماضي لتبرير الإجرام المؤدلج دينياً، هؤلاء في جانب منهم ضحايا، لكنهم هذه المرة ليسوا ضحايا الاستعمار وإنما ضحايا «الضباط الأحرار» الذين لم تتح لهم فرصة التقدم في الوطن الأم فتلقفهم الضالعون في اليأس من أصحاب اللفات الذين يعيشون على فتات الدولة المضيفة ويكيدون لها، وسلاحهم شباب ضال يريد أن يثبت نفسه ولو على حساب أبرياء وأطفال ونساء لم يعد لهم في هذه الحرب ناقة ولا جمل.
تصر الجزائر على اختزالنا، في ذروة الأزمة الوطنية على السلطة أحب الجيش الجزائري أن يجري تجربة على شعبيته إذ سمح بانتخابات (شبه حرة) عام 1991، فازت فيها قوى إسلامية ليست على اتفاق مسبق مع الجيش، ألغى الجيش الانتخابات وباشر على طريقة بشار الأسد لاحقاً، استعادة السلطة إلى منابعها الأولى، لم يتورع جيش الثورة المضاد لـ«الاستعمار» في خوض حرب أهلية تلغي نتائج الانتخابات شبه الديمقراطية، هي العشرة السود، لعشر سنوات أمعن الجيش الثوري في القتل والتشنيع والطغيان ليستدر ردود فعل مماثلة، وكان له ذلك، وكان له أن يعيد الجزائر إلى مربع الرعب الأمني والخواء السياسي، كم بلد عربي شهد ذلك؟ كانت السلطات العسكرية تبحث عن ذرائع وكانت القوى الدينية تقدمها كقرابين، وانطوت الصفحة على أكثر من مئة ألف قتيل واضعافهم من الجرحى والمنفيين والمهاجرين.
لا تقف حكاية الاختزال الجزائري للواقع العربي عند هذا الحد، كان على متن الطائرة المتوجهة إلى مطار تندوف في جنوب البلاد ثلاثون من أعضاء «الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب» المعروفة اختصاراً بإسم «بوليساريو» وهذا الاسم هو مجموع الأحرف الأولى للإسم الرسمي للجبهة …لكن باللغة الإسبانية (لسبب ما)، السبب المعروف انها عندما انطلقت في إطار فعاليات الحرب الباردة عام 1973 كانت ضد الاحتلال الإسباني، وصارت تلقائياً ضد المملكة المغربية بعد انتقال السلطة السيادية إليها عام 1975.
بلد المليون ونصف المليون شهيد لا يزال في العام 2018 يستثمر في مخلفات الحرب الباردة. بلد الملايين الثلاثة المهاجرين البائسين إلى فرنسا وأوروبا (هؤلاء ليسوا أبناء الضباط وكبار المسؤولين المقيمين والمتملكين شرعياً)، لا يزال تستثمر في الحرب الباردة ضد من؟ ضد المملكة المغربية الجارة العربية المسلمة (قل ما شئت… من أوصاف). نفس الاستثمار الإيراني في اليمن؟ ربما. نفس الإستثمار السوري في لبنان؟ ربما. نفس الاستثمار العالمي في سوريا؟ بالتأكيد. أليس هناك من تسوية ممكنة؟ خصوصاً وأن الجزائر لا تدعي حقاً جغرافياً في المنطقة، بلى التسوية ممكنة، لكن تلك التسوية تعني الكثير للحكام الثوريين من عبدالفتاح السيسي في مصر إلى عمر البشير في السودان. يعني رفع اللجام عن الفم العربي، يعني تنحي الضباط… كل الضباط عن الحياة العامة والتصرف كأي موظف عمومي يقبض راتبه من أموال الناس وعليه أن يبين مردوده للناس. يعني أن لا رامي مخلوف الذي يسرق البلد ويستثمر ويفاوض ويقايض بلا قيود، فقط لأنه ابن اخت الرئيس الراحل وابن عمة الرئيس الحالي.
لكن الجزائر تأبى، الجزائر تساند بشار الأسد، الجزائر تحتفظ بسفارة لبشار الأسد، الجزائر تشذ.. ومعها لبنان أحياناً عن الإجماع العربي في الموضوع السوري… ليس من منطلق حق إنما من منطلق المبدأ، إذا قبلت الجزائر بثورة الشعب السوري، عليها أن تعيد النظر بالعشرة السود، وهذا يعني اعلان وفاة بوتفليقة سياسياً على الأقل… يعني الاعتراف بالمواطنين كبشر… ويعني أن الجزائر –وهي ضمن أكبر عشر دول انتاجاً واحتياطاً للنفط في العالم– لديها ما يزيد عن حاجة العسكر لتؤمن حياة كريمة لشعبها.
Leave a Reply