صالح مهدي الأمين
يختلف البشر حول العديد من القيم والمثل، لكن هناك ثوابت أخلاقية وحضارية ووطنية تجمع عليها الأديان والثقافات والأعراف والتقاليد، وتبقى متأصلة في وجدان الناس لا تتغير بتبدل الأحوال والأزمنة، فالكرامة الإنسانية تظل إحدى تلك المفاهيم التي لا يختلف عليها اثنان.
لسنا هنا في معرض الوعظ والإرشاد حول معنى الكرامة والعدالة والحرية، فجميعنا في هذا العصر صار متخماً بالكلام المنمق والمعسول حول تلك المفاهيم، لكن العبرة تبقى في مطابقة الأقوال للأفعال.
لا زلنا في هذا المنقلب من العالم، نعيش عقدة إثبات اننا أبناء هذه البلاد، وأننا اميركيون حقيقيون، نلهث وراء ما يظهرنا أمام الآخرين بمظهر «المنفتح» و«المندمج» و«المنتمي» لهذه الثقافة. ونقدم كلما سنحت الفرصة فروض الطاعة والولاء ونخضع أنفسنا لمئات اختبارات الوطنية والولاء لأميركا، مرددين على الدوام بأننا مواطنون صالحون وأن لا أحلام لدينا سوى «الحلم الأميركي» الجميل!
باختصار، لا زلنا وعلى بعد ما يزيد على خمسة إلى ستة أجيال من وجودنا هنا، وبعد التضحيات الكثيرة لهذه البلاد نتصرف بعقلية الدخيل والغريب.
وتحت ذرائع «الانفتاح والاندماج والانتماء والرقي والولاء» ندوس أحياناً على كرامتنا ونطمس هويتنا ونتبرأ من قيمنا ونبرر لأنفسنا الازدواجية والتناقضات، فكل أمر يهون من أجل أن يرضى عنا «الرجل الأبيض» ويمنحنا شهادة في الرقي.
نسينا أن الحرية والعدالة والمساواة هي الأسس التي تقوم عليها ديمقراطية الولايات المتحدة وأننا متساوون في الحقوق والواجبات أمام القانون، لا منة لأحد علينا هنا. نسينا أننا قوم كادحون ساهمنا في التطوير وبناء الاقتصاد وأننا ندفع الضرائب ونلتزم بالقانون، وأن من حقنا ممارسة شعائرنا ومعتقداتنا والتعبير بحرية وسلمية عن آرائنا.
من حقنا بل من واجبنا مطالبة المسؤولين هنا برفع الظلم عن كل المضطهدين في العالم، بدءاً بأهلنا وأبناء جلدتنا وانتهاء بجميع المواطنين الأميركيين الذين يشقون في تأمين قوتهم ونيل أبسط حقوقهم الإنسانية، من تعليم وطبابة وسكن.
وإحدى مظاهر الازدواجية التي أشرت إليها، تكمن في مناسبتين أقيمتا في «المركز الإسلامي في أميركا» بديربورن، منذ أسبوعين.
المناسبة الأقدس كانت ذكرى مجزرة قانا، تلك التي تلخصت فيها الوحشية الإسرائيلية على مدى سبعة عقود بحق الأبرياء والأطفال. لن أستفيض بالحديث عن معاناة الملايين من البشر بسبب آلة الإجرام الإسرائيلية فجميعنا اكتوى بنار حقدها والبعض منا فقد أهلاً وأحبة، وبيوتاً وأرزاقاً، هجرتهم الى الولايات المتحدة بسبب التنكيل الذي أصابهم في قراهم وديارهم، وأجزم بأن جميع صفحات هذه الصحيفة لا تتسع لسرد الحروف الأولى لأسماء ضحايا الجرائم الإسرائيلية.
أما المناسبة الأدنس فقد سربت تحت حبائل التكتم قبل أسبوع من عرس قانا في ذات المكان. حيث تمت بتاريخ 14 نيسان دعوة رهط من العسكريين والضباط لتناول الفطور والتعرف على المركز الإسلامي في أمريكا لما يمثله من رمز للمسلمين في هذه البلاد. ومن ضمن العسكريين القادمين من أكثر من أربعين دولة وجهت الدعوة أيضا لضباط إسرائيليين. وبسؤال عدة أشخاص من العاملين بالمركز الإسلامي وأعضاء في مجلس الأمناء وبعض الحضور تبين أن عسكريين اثنين على الأقل قد حضرا الحفل الذي تخللته جولة في المركز مع جلسة في قاعة الصلاة وعدد من الكلمات الترحيبية لأعضاء مجلس الأمناء. وبعض من حضر اللقاء وتفاجأ بحضور الاسرائيليين سأل أحد المنظمين، فأفاد: «إن هذه المناسبة جزء من مجموعة لقاءات وندوات تُنظّم بهدف التقريب بين الأديان وإن دعوة العسكريين هذه ليست الأولى من نوعها إنما تمت دعوتهم للسنة الـ11على التوالي، مؤكداً أنه لم يعترض أحد من القيميّن على المركز على عقد هذا اللقاء، لا في السابق.. ولا هذا العام أيضاً».
يذكر أنه انتشرت في الأسبوعين الماضيين على وسائل التواصل الاجتماعي رسالة ومقطع فيديو وُجهت للجالية العربية تحثّ على الاستفسار حول ملابسات تلك الدعوة. وعند سؤال بعض أعضاء مجلس الأمناء أنكروا أنهم موافقون على دعوة الإسرائيليين لكنهم لم ينكروا علمهم بحضورهم وأكدوا أن البعض منهم رغم اعتراضه نزل عند إصرار المنظمين على عقد اللقاء رغم حضور الإسرائيليين. وما زاد الطين بلة أنه كان ضمن العسكريين الحاضرين ضابط سعودي وآخر إماراتي، بحسب مصادر المركز الإسلامي.
وحتى هذه الساعة لم يصدر أي توضيح من المركز الإسلامي حول هذا الموضوع، بالرغم من مطالبة العديد من أبناء الجالية واستفساراتهم… لكن تجدر الإشارة إلى أنه تمت إزالة صور الاحتفال من صفحة المركز الإسلامي على موقع «فيسبوك».
وهنا لا بد من التأكيد على عدة أمور:
أولاً: نحن نحرص على كرامة المركز الإسلامي كرمز لكل مسلم في هذه البلاد فهو لا يمثل فئة معينة لأنه بيت من بيوت الله وملجأ لكل مؤمن وهو أيضاً قبلة لكل أبناء هذه الجالية وبيتهم الجامع على اختلاف توجهاتهم. كرامتهم من كرامته وتدنيسه من قبل عسكري صهيوني يمثل إهانة للجميع بل وطعناً بكرامة ملايين الشهداء والجرحى والأطفال المعذبين والأمهات الثكالى، هي طعنة في الصميم لكل الذين عانوا مرارة الاحتلال الإسرائيلي منا.
ثانياً: إن مركزنا الإسلامي دار عبادة يرحب بأتباع جميع الأديان من مسلمين ويهود ومسيحيين وغيرهم، وقد استقبل مراراً حاخامات ورهباناً وقسيسين، وقد كنا ولا زلنا دعاة تسامح وحوار كما علمنا نبينا الأكرم (ص)، لكن فليسمحوا لنا هذه المرة. فالعسكر مكانهم الثكنات لا دور العبادة وأما من سفك دماء الأبرياء فمكانهم قاعات المحاكمات والسجون.
ثالثاً: كيف يكرم في مركزنا –بيت جاليتنا الكبير– ضابط إسرائيلي وآخر سعودي وثالث إماراتي بينما ودماء الفلسطينيين في غزة تسفك والشعب اليمني المظلوم يذبح ويقتل بدم بارد ويئن تحت جور الحصار والجوع والأوبئة؟ أي حوار أجريتموه مع هؤلاء؟ هل سألتم «ضيوفكم» عما ترتكبه حكوماتهم من جرائم؟ وهل تعلموا منكم قيم الإسلام السمحاء، هل رفعتم أمامهم شعارات السلام والعدل ونصرة المظلوم؟
لا أيها السادة لن نسمح لكم بأنسنة الوحش الإسرائيلي وتطبيع العلاقة معه تحت أي مسمى كان، لا يمكن لأهلنا الصمت مقابل هذا العار وبالقبول بحفل المجون هذا، إذا كان الشعب اليمني والفلسطيني يقاوم بلحمه ودمه أمام صمت العالم وتكميمه للحقائق، فنحن في هذه البلاد لاتزال لدينا القدرة على الصراخ في وجه العتاة والطغاة، وأضعف الإيمان أن نرفض تدنيسهم لمسجدنا وأحد رموز مجتمعنا. إننا نشجب وندين أن يكرم باسمنا وأن يستقبل بالترحيب من لاتزال دماء أطفالنا ونسائنا تقطر من أنيابه..
القيمون على المركز الاسلامي وجميع المراكز الدينية والثقافية والاجتماعية يجب أن ينزلوا من برجهم العاجي وأن يستمعوا الى أبناء هذه الجالية، أن «يقفوا عند خاطرهم»، أن يرقبوا تطلعاتهم وتوجهاتهم. هذه مؤسساتنا ومراكز أبنائنا وليست مزارع خاصة ونحن سنحميها بأشفار العيون.
أمناء المركز الاسلامي، أنتم مدينون للجالية وللملايين من ضحايا الوحشية الصهيونية والوهابية بالاعتذار، ومطالبون بأن تكفوا يد من دعا هؤلاء إلى مسجدنا.
أيها السادة، لايزال الموقف سلاحا ولاتزال المصافحة اعترافاً فندعوكم إلى تسجيل موقف وهو أضعف الإيمان.
Leave a Reply